منبــــر: تأنيث الإدارة: بين طموح الإرادة وأثر «سقف الزجاج» *

بلغة الأرقام تبلغ نسبة تأنيث الوظيفة العمومية في المغرب، قُرابة 40 %، فيما تقترب نسبة تأنيث مناصب المسؤولية في مستويات رئاسة الأقسام والمصالح من 25 %،

أما على صعيد المواقع العليا في الإدارة كما هو الحال بخصوص مهام: كاتبة عام، مديرة، مديرة عامة.. فالنسبة تتجاوز 15 %.

القراءة المُجردة لهذه الأرقام غير قادرة على إنتاج المعنى، في المقابل فإن المُقارنة الزمنية والتفكير في أثر الإجراءات المُدَعِّمَة وحدهُما يسمحان، باعتبار النسب المُعلنة تمثل تقدماً ملحوظا، إذ ان معطيات سنة 2014 مثلا تسمح بالوقوف داخل نفس نسبة التأنيث الإجمالية (40 %)، على نسب لتأنيث مواقع القيادة، لا تتجاوز 10 % على صعيد المناصب العليا (كاتبة عامة، مديرة، مديرة عامة...)، ولا تتعدي 20 % على مستوى مناصب المسؤولية (رئيسة قسم، رئيسة مصلحة).

في الخلفية، تستند سياسة تشجيع ولوج النساء الى المناصب القيادية بالإدارة المغربية، على أربعة أعمدة كبرى: إرادة ملكية معلنة وقوية لتمكين المرأة، تقدمٌ لافتٌ للإطار المعياري والممارسة الإتفاقية، محيطٌ مدني وسياسي ومؤسساتي مُحفزٌ، وسياسات عمومية مدمِجَة لمُقاربة النوع.
الإرادة السياسية القوية التي تُجسّدها القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، تنطلق من إعتبار فكرة المساواة إحدى القيم المؤسسة للمشروع المجتمعي المغربي، وتُشكل ضمانة كبرى لسياسات تمكين المرأة، ودعم ولوجها لمواقع المسؤوليات التنفيذية والإدارية والإنتخابية.
من جهة ثانية، يُوفر الإطار المعياري بمستوياته الدستورية والتشريعية والاتفاقية، مرجعية ملائمة لتدعيم سياسة «ثأنيت الإدارة». حيث يشكل دستور2011 التأكيد القانوني الأسمى لسعي الدولة المغربية لتحقيق مبدأ المناصفة، ولضمان ولوج الوظائف العمومية حسب الإستحقاق، ولتشجيع تكافؤ الفرص بين

النساء والرجال في المهام الانتخابية، فضلاً عن تنصيصه على إحداث الهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز.
أما مصادقة المغرب على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والموافقة على البروتكول الاختياري لها، فقد مثلت التعبير الأكثر وضوحاً عن تبني بلادنا للإلتزامات الحقوقية التي رسخها القانون الدولي في مجال تمكين المرأة.

الرّكيزة الثالثة لدعم ولوج النساء لمواقع متقدمة داخل الإدارة العمومية، تتمثل في وجود محيط مؤسساتي وسياسي ومدني مدعم.
هكذا تقدمت نسبة تمثيلية النساء داخل الهيئات المنتخبة، بعد تفعيل آليات التمييز الإيجابي والإجراءات الإرادية للأنظمة الانتخابية، لتصل إلى ما يتجاوز 24 % من مقاعد مجلس النواب، و25 % من مقاعد الجماعات المحلية.

وإذا كانت ثلث حقائب الحكومة الحالية تعود الى نساء، فإن الأهم من ذلك أن هذه الحقائب تبتعد كثيراً عن التوزيع النمطي للأدوار الذي يحْصِرُ حضور النساء داخل بعض القطاعات ذات الحساسية الإجتماعية والأسرية.
المحيط المدعم يرتبط كذلك بالإطار المهني داخل فضاءات الشغل بالقطاع الخاص، حيث تقر مدونة الشغل بمبدإ عدم التمييز في الولوج الى العمل، فيما صادق البرلمان في الصيف الماضي على تعديل مهم لقانون الشركات الذي أصبح يحدد حصصاً الزامية للنساء في مجالس إدارة الشركات المتداولة في سوق المال دون أن ننسى، وجود مجتمع مدني يقظ ومُتحفزٍ لمسألة تمكين المرأة، يتجسد في وسائل إعلام قوية ونخبة من الجامعيين والمثقفين، وشبكة من المبادرات المدنية والجمعيات النسائية والحقوقية التي تشتغل منذ سنوات حول الترافع من أجل المناصفة والمساواة.
الرّكيزة الرابعة، ترتبط بالإدماج المتواصل لمقاربة النوع داخل السياسات العمومية، حيث توالت منذ أكثر من عقدين العديد من الاستراتيجيات الوطنية الهادفة الى تحقيق المساواة والتمكين، وكرس المغرب التزامه بتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية في شقها المتعلق بتعزيز المساواة، ثم بعد ذلك بتحقيق أهداف التنمية المستدامة في ذات الموضوع.

في نفس السياق، يعتمد المغرب استراتيجية مأسسة المساواة في الوظيفة العمومية منذ عام 2005، التي تعززت بإنشاء شبكة للتشاور بين الوزرات عام 2010، وبخلق مرصد لمقاربة النوع في الوظيفة العمومية، وبوضع خطة تنفيذية لتفعيل استراتيجية مقاربة النوع داخل الإدارة عام 2016..
مواكبة لكل هذا التحول النوعي لهندسة السياسات في علاقة بقضايا المساواة، عرف المغرب في السنوات الأخيرة، تراكماً غنياً للعديد من الأدبيات والتقارير الدورية والدراسات المؤسساتية والدلائل حول موضوع ولوج النساء لمناصب المسؤولية.
في الوقت الذي تم فيه منذ 2002 ادخال مقاربة الميزانية المُستجيبة للنوع، ويتم منذ اقرار القانون التنظيمي للمالية إعداد تقرير سنوي مرافق لمشاريع قانون المالية خاص بمقاربة النوع الاجماعي.

في الكثير من الدراسات الرّصينة التي أُنجزت في الموضوع، سواء من تلك المنتمية الى سِجل الأبحاث / الترافع، المقدمة من طرف جمعيات مدنية ونسائية، أو الى سِجل الأبحاث المؤسسية المقدمة من طرف قطاعات حكومية او منظمات أممية، أو الى سِجل الأبحاث الأكاديمية، فإننا نقف على نفس التشخيص: هناك تقدم في تأنيث الإدارة، لكن الأرقام تظل في حاجة الى ارتفاع لكي تتناسب قليلاً مع حجم الحضور الإجمالي للنساء في قاعدة الوظيفة العمومية والذي يكاد يقترب من المناصفة.

الفرضيات المُفسرة تتباين؛ إذ تتفاوت بين فكرة العزوف الذاتي للموظفات عن تحمل المسؤوليات والتعبير عن روحٍ قيادية، وبين فكرة أثر استراتيجيات التفاوض الأسري بين الزوجين لتدبير مساراتهما المهنية والتي كثيرا ما تنتهي بتنازل المرأة/ الزوجة عن طموحها المهني لفائدة الزوج..
لكن الفرضية الأكثر حضوراً في الأدبيات ذات الصلة بالموضوع، والتي تكاد تتحول الى مفهوم مِفْتاح لدى الناشطات النسائيات المهتمات بالترافع من أجل تأنيث الإدارة، هو « السقف الزجاجي».
تُحيل هذه الإستعارة السوسيولوجية الى وجود حواجز صارمة وغير مرئية تحُد من طموحات النساء في الترقي الوظيفي، ذات مضمون ثقافي واجتماعي وذهني وسلوكي.

الواقع أن فرضية «السقف الزجاجي» تسمح بالتفكير في الموضوع من زاوية إشكالية محدودية الإطار المعياري والتنظيمي المؤسس للحيادية الجنسانية للإدارة، في تحقيق ولوج سلس للنساء الى مواقع القيادة.
هنا لابد من إعادة تأطير الموضوع بشكل يسمح بتمثل رهاناته الكبرى، إن تأنيث الإدارة قبل أن يكون ثمرة إجراءات وقرارات تنظيمية، جزء من دينامية مجتمعية وتحديثية معقدة.
إن الولوج النسائي الى مواقع المسؤولية، هو ولوج الى النخبة والقيادة، ولذلك فهو بطبيعته -كمسار إداري- يوجد في قلب تغيير القيم والمجتمع والمعايير.

وعندما نكون بصدد التغيير المُجتمعي فإن تصورنا للزمن يجب أن يتغير دون أن يعني هذا استسلاما لصيرورة التحولات المجتمعية في اتجاهاتها الثقيلة، أو ركونا لاستصغار الإرادوية السياسية وأداتها الرئيسية: القانون!
ذلك أن القدر التاريخي للدولة الوطنية في مجتمعاتنا، يجعلها حاملة لمشروع التحديث وضمنه بالتأكيد تحضر قيم المساواة، وهو ما يبرز في لحظات اللقاء الكبرى بين الدولة وبين اليقظة المجتمعية والثقافية والمدنية.
الخلاصة أن «السقف الزجاجي» لا يوجد فقط فوق فضاءات الإدارة، لكنه يرتبط بمستويات التحول المجتمعي المُعقد نحو الحداثة، لذلك فإن نسب التقدم في مسار تأنيث الإدارة التي تبدو في المجتمعات العربية، من زاوية النماذج المعيارية والممارسات الفضلى مُتواضعة، تبقى من زاوية المجتمع والثقافة مهمةً،

والأهم أنها توجد في اتجاه التاريخ.
# من الكلمة التي أُلقيت بتونس العاصمة، يوم الأربعاء 23 فبراير2022، في حفل تسليم رئاسة الشبكة الإقليمية للمساواة بين الجنسين في الوظيفة العمومية من تونس إلى الأردن.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115