قهوة الأحد: ماهية ومهام الدولة المُحَرّرَة (2)

عرف دور الدولة نقدا ومراجعات كبيرة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي .وساهمت هذه القراءات النقدية في تراجع نسق دولة الرفاه

الذي هيمن على السياسات العمومية منذ نهاية الحرب العالمية وظهور انساق ومنظومات فكرية جديدة موغلة في النيوليبرالية .

• فقد دولة الرفا والثورة النيوليبرالية
عرفت أغلب البلدان المتقدمة أزمة اقتصادية خانقة منذ نهاية الستينات وبصفة خاصة منذ منتصف الثمانينات حيث تراجع النمو وتطور التضخم وتنامت البطالة بعد أن تمكنت اغلب هذه البلدان من القضاء على البطالة الهيكلية لتعرف فترة ذهبية من التشغيل الشامل أو ما يطلق عليه (plein emploi) ولم تقف هذه الأزمات على المستوى الداخلي بل تطورت على المستوى العالمي مع قرار الولايات المتحدة الأمريكية بإيقاف صرف وتحويل الدولار إلى الذهب لتنهي بذلك النظام الاقتصادي العالمي الموروث عن اتفاقية بروتون وودز (Bretton woods) لسنة 1944.
وتهم المسألة الأساسية في هذه الفترة عجز السياسات الاقتصادية التقليدية عن إيجاد الحلول للخروج من هذه الأزمات وبصفة خاصة ضعف النمو وارتباطه بالتضخم.فقد بنيت السياسات الاقتصادية الكينزية السائدة منذ الحرب العالمية الثانية على المراوحة بين النمو والتضخم .
فاق تعايش هاتين الظاهرتين زمة خصوصية أطلق عليها الاقتصاديون تسمية «الكساد التضخمي» أو Stagflation .وقد عجزت كل محاولات السياسات التقليدية وتدخلات الدول في إيقاف هذه الأزمة وبصفة خاصة وضع حد للتطور الكبير للبطالة الذي عاشته أغلب البلدان الرأسمالية .
وكانت هذه الأزمات وبصفة خاصة عجز السياسات الاقتصادية وراء جملة من النقد الشديد والراديكالي لا فقط الفكري الكينزي بل كذلك لتدخل الدولة في الاقتصاد.
وكان هذا النقد لدور الدولة فرصة لظهور ثورة نيوليبرالية شاملة وجهت سهامها لكل التدخلات الخارجية عن السوق وعن الديناميكية الاقتصادية .
وأدى هذا النقد وتواصل الأزمات الاقتصادية وتوترها في اغلب البلدان إلى نهاية نسق ومنظومة دولة الرفاه وظهور منظومة جديدة ساهمت في ظهور وهيمنة السياسات النيوليبرالية بداية من بداية ثمانينات القرن الماضي والانتصار الكاسح للأحزاب اليمينية في أغلب البلدان الديمقراطية .
وقد ارتكز النقد الشديد للدولة ودورها لاقتصادي على ثلاث مسائل أساسية .

المسألة الأولى هي ما يمكن أن نسميه بالقدرة على استقراء المستقبل للفاعلين الاقتصاديين ففي النقد الذي وجهه الكثير من الاقتصاديين لنجاعة دور الدولة وقع التأكيد على مسألة مهمة وهي قدرة الفاعلين على استقراء المستقبل وهو ما عبر عنه بفرضية (les anticipations rationnelles) ولئن ظهرت هذه النظرية سنة 1961 عن طريق الاقتصادي Muth الا انها لعبت دورا أساسيا منذ نهاية سبعينات القرن الماضي لتصبح مربط الفرس عند الثورة المضادة النيولبيبرالية .واكدت هذه النظرية إلى أن الفاعلين الاقتصاديين من مؤسسات القطاع الخاص وأفراد وصلوا إلى مستوى من المعرفة جعلهم لا ينقادون بسرعة إلى حوافز الدولة والسياسات الاقتصادية بل واصلوا التصرف واخذ القرارات الاقتصادية بكل عقلانية .

ويمكن أن نأخذ على ذلك المثال الترفيع في الأجر الذي قد تتخذه الحكومات للترفيع في الاستهلاك .فهذه النظرية تشير إلى أن هذا الحافز لن يقود بالضرورة إلى الترفيع في الاستهلاك لان الأفراد يعلمون أن هذه الزيادة في الأجور سينتج عنها على المدى المتوسط ارتفاع في عجز الميزانية وبالتالي ستلجأ الدولة الى الترفيع في الضرائب لتغطية هذا العجز.وبالتالي فإن الفاعلين الاقتصاديين لم ينجروا وراء التحفيز الذي قدمته الدولة لأنهم يعلمون العواقب التي تنجز عن هذا القرار .

ويمكن أن نجد هذا القرار في اغلب القرارات الاقتصادية مما يجعلنا نصل إلى نتيجة أن الفاعلين الاقتصاديين أحبطوا محاولات الدولة للتدخل في الاقتصاد وبالتالي أصبحت فعالية وأدوات السياسة الاقتصادية محدودة إن لم نقل منعدمة .

المسألة الثانية والتي لعبت دورا كبيرا في نقد دور الدولة الاقتصادي تخص مسألة الثقة وقدرة السياسات العمومية على تعبئة الفاعلين الاقتصاديين وتحفيزهم للوصول إلى النتائج التي رسمتها .ويأتي غياب الثقة من عدة مسائل أشارت إليها النظريات النقدية ومن ضمنها مصداقية السياسات الاقتصادية خاصة عندما يتراجع المسؤولون عن الالتزامات التي يأخذونها كما أشار عتاة النقد النيوليبرالي لدور الدولة إلى مسالة أساسية أخرى ويطلق عليها تسمية (hasard moral) أو ما يمكن ترجمته بالمصادقة الأخلاقية وهي جنوح الدول إلى المكافأة والتعويض بسخاء لضحايا بعض الحوادث كالبطالة أو الفيضانات مثلا مما يدفعهم إلى عدم المحاولة لتفادي هذه الأوضاع بكل جدية .

كما أن مسألة عدم الثقة في السياسات الاقتصادية مرتبطة كذلك في هذه التحاليل والقراءات بالتغيير الذي عرفته الاختيارات الكبرى أغلبيات الحكم في البلدان الديمقراطية .
تساهم هذه العوامل في تراجع الثقة في السياسات العمومية عند الفاعلين الاقتصاديين مما افقد دور الدولة النجاعة المرجوة .

المسألة الثالثة التي يشير إليها نقد دور الدولة تهم المعرفة وقدرة المؤسسات الرسمية على الحصول عل المعلومات الضرورة من اجل رسم السياسات الملائمة .فقد أشارت أغلب هذه القراءات والنظريات إلى أن الواقع الاقتصادي شهد الكثير من التطور والتعقيد مما يجعله عصيا على الفهم وبالتالي ساهم في تراجع فعالية السياسات الاقتصادية .

ساهمت هذه الأفكار والآراء منذ منتصف السبعينات في النقد الراديكالي للنسق الفكري السائد الذي دافع عن دور الدولة في الاقتصاد.وساهم هذا النقد في الثورة النيوليبرلية التي بدات في بداية الثمانينات والتي شكلت منظومة فكرية راديكالية نسف وترفض بكل قوة أي دور للدولة في الاقتصاد.
وأكدت هذه المنظومة الجديدة عل أربعة مبادئ أساسية وهي استقرار الأنظمة الاقتصادية، وفعالية السوق وحيادية السياسات الاقتصادية واللجوء للسياسة النقدية لمحاربة التضخم .
وقد شكلت هذه المبادئ أساس السياسات الاقتصادية الموغلة في النيوليبرالية والتي وقع تطبيقها في اغلب البلدان الرأسمالية خلال عشرية الثمانينات خاصة بعد الانتصار الكاسح للأحزاب اليمينية ووصولها إلى السلطة .
إلا أن هذه الاختيارات أتثبت بسرعة عدم واقعيتها ليقع تحوير هذه المنظومة الفكرية والمرور إلى منظومة نيوليبرالية أكثر نعومة وهدوءا من خلال إعطاء دور جديد للدولة .

• الدور التعديلي للدولة والخروج
من راديكالية النيوليبرالية
مع ظهور عديد الأزمات الاقتصادية في عقد الثمانينات أثبتت السوق عجزها عن تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو .واضطرت السردية النيوليبرالية إلى تعديل أوتارها والقبول بضرورة الدولة لإعانة السوق ومحاولة تجاوز الصعوبات التي عرفتها في تلك الفترة .
وقد اعترفت النظريات النيوليبرلية السائدة في تلك الفترة بعدم فعالية «اليد الخفية» لأدام سميث (Adam Smith) وعجز السوق عن كبح جماح التناقضات والتحديات الاقتصادية.
ويعود هذا العجز حسب هذه النظريات إلى أربعة أسباب أساسية .السبب الاول هو أن المنافسة ليست مثالية (concurrence n’est pas parfaite) بسبب تواجد الشركات الاحتكارية والتي تحد من قدرة السوق على تطبيق قواعد المنافسة الحقيقية .وبالتالي لابد من الرجوع إلى قوة الدولة لإجبار الاحتكارات على احترام المنافسة .

أما السبب الثاني وراء صعوبات السوق في تحقيق التوازن والنمو فيهم الآثار الخارجية (les externalités) التي تنتج عن النشاط الاقتصادي والتي تتطلب تدخل الدولة لحماية المجتمع .ولعل أهم هذه التأثيرات السلبية يهم المناخ وتدهوره المتسارع نتيجة النشاط الاقتصادي والذي لا يعجز السوق عن حمايته .
ويعود السبب الثالث لعجز السوق إلى عدم كفاية المعلومات والتي سعى بعض الفاعلين الاقتصاديين إلى امتلاكها وإخفائها لتحسين مواقعهم التنافسية .
أما السبب الرابع في عجز السوق فيعود إلى عدم اكتمال بعض الأسواق أو(les marchés incomplets) وبالتالي عدم قدرتها على القيام بدورها في تحديد الأسعار وتنظيم التبادل بين الفاعلين الاقتصاديين .
وقد فتحت هذه الملاحظات الجوهرية شرخ كبير في المنظومة النيوليبرالية الموغلة في الراديكالية وفسحت المجال لعودة دور الدولة في دور جديد يختلف جوهريا عن دورها الاستراتيجي في مجتمع الرفاه .وكانت هذه العودة الناعمة للدولة وراء مصالحة بين الفكر النيوليبرالي والفكر الكينزي ومكنتهما من تجاوز الحروب التي عاشاها لسنوات طويلة خاصة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي .

وأعطت هذه المنظومة الجديدة دورا جديدا للدولة والذي اقتصر على تعديل سير عمل اقتصاد السوق لا تعويضه ومن هنا جاء الدولة المعدلة (Etat régulateur) والتي سعت إلى ضمان حسن سير من خلال وضع الآليات والمؤسسات الضرورية لهذا التنظيم .ولعبت هذه النظرية الناعمة لدور الدولة ولعلاقتها مع السوق الدور الأساسي وقد هيمنت على السياسات الاقتصادية منذ بداية التسعينات إلى يومنا هذا .
إلا أن تواتر الأزمات جعل البلدان المتقدمة تعود في بعض الأحيان إلى دور أكثر استراتيجي للدولة في الاقتصاد.

• تواتر الأزمات وتطور السياسات الاقتصادية
رغم هذه العودة الناعمة للدولة ودورها التعديلي فإن الاقتصاد العالمي شهد تصاعد الانحرافات والانخرام والتي أدت لأزمات مفتوحة.
وقد شكلت الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 ذروة المغامرات المالية وجشع المضاربين في الأسواق المالية العالمية والتي وضعت الاقتصاد العالمي على حافة الإفلاس.
وقد وضعت هذه الأزمة دور الدولة التعديلي موضع المحك لتثبت حدوده وعدم قدرته على التعاطي مع التقلبات الاقتصادية .ودفعت هذه الأزمة الدولة إلى الخروج من الدور التعديلي والمتفرج ولعب دور استراتيجي أكثر لحماية الاقتصاد العالمي من الانهيار .
واثر هذه الأزمة المالية عرف العالم أزمة مناخية كبيرة في مارس 2011 اثر الانفجار النوري في فوكيشيما في اليابان .وقد دفعت هذه الأزمة الدول إلى لعب الدور نشيط في من أجل حماية المناخ .
كما شهدت السنوات الأخيرة تصاعد الفوارق الاجتماعية والتهميش الذي أصبح الشغل الشاغل للدول والمؤسسات المالية الدولية باعتبار مساهمتها في عدم الاستقرار السياسي وتصاعد الانتفاضات والثورات في العالم. وكانت المسألة الاجتماعية وراء انتفاضات الربيع العربي وعديد الثورات في البلدان الأخرى .وقد أكدت اغلب الدراسات أن تراجع دور الدولة في توزيع الثروات ساهم بشكل كبير في تنامي الفوارق الاجتماعية وقد لعبت جائحة الكوفيد 19 والخطر المحدق الذي مثلته للصحة العالمية وللاقتصاد وللمجتمعات دورا أساسيا في عودة الدولة والخروج من السياسات التقليدية والموروثة في من بداية تسعينات القرن الماضي .

وقد ساهمت الأزمات المالية والمناخية والاجتماعية والصحية طيلة السنوات الأخيرة في تراجع المنظومة الليبرالية والتي حصرت دور الدولة في تعديل الاقتصاد الرأسمالي ومساعدة السوق على تجاوز عاهاته ومحدوديته.وفتح هذا التراجع الى ظهور سياسات اقتصادية جديدة تختلف عن السياسات التي هيمنت على السنوات والعقود الأخيرة .ويمكن تحديد خصوصية هذه السياسات في خمس سمات أساسية.
سمة السياسات الجديدة تهم العودة القوية للدولة لحماية الاقتصاد والمجتمعات من كل التحديات والمخاطر الكبرى التي تواجهها.فالدولة ستخرج من حيادها لتلعب دورا مركزيا في مواجهة الصعوبات وفي قيادة المشاريع العمومية الكبرى ولإعادة ثقة المجتمعات على حماية أنفسها أمام الأزمات .
أما السمة الثانية فتهم عودة الجانب الاجتماعي إلى مركز الاهتمامات لتصبح مسالة إعادة بناء العقد الاجتماعي والمشترك الجمعي في أولى أولويات الدول .
وتعود السمة الثالثة إلى نفض الغبار عن السياسات غير التقليدية بعد عقود من هيمنة الرؤى والتصورات المحافظة لتفتح مجال البحث عن الحلول الجديدة والاختيارات البديلة .
وتهم السمة الرابعة العمل على تجنيد كل مجالات السياسة الاقتصادية من اجل مواجهة المخاطر بعد أن تم تجاهل بعضها لعقود طويلة مثل السياسات المالية .
أما السمة الخامسة فترتبط بضرورة التحرر من القواعد والمبادئ الضيقة التي كبلت دور الدولة في حماية الاقتصاد والمجتمعات .
وقد شكلت هذه المبادئ والسياسات في السنوات الأخيرة تطورا جذريا وتعبئة سياسية كبيرة للمجتمعات الديمقراطية للخروج من حالة الفتور وعدم الاكتراث والتجند لمواجهة المخاطر الكبرى التي تهدد الإنسانية والمجتمعات البشرية .
وكانت هاته المبادئ نقطة انطلاق للخروج من منظومة الحد الأدنى لتدخل الدولة والذي اقتصر على دورها التعديلي لتحديد دور أكثر فاعلية وإستراتيجية والذي أطلقنا عليه الدولة المُحرّرَة.

• الدولة «المُحرّرَة» نحو تعبيرة جديدة للمشترك الجمعي
تلتقي اليوم ثلاث تطورات كبير لتفرض تحولا جذريا في الرؤيا والتصور لدول الدولة الاقتصادي والخروج نهائيا من المنظومة التي اقتصر فيها هذا الدور على تعديل الاقتصاد الرأسمالي وتجاوز أخطاء السوق وعجزها على إدارة الانحرافات والأزمات .
يهم التطور الأول حجم المخاطر الكبرى والتحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية والإنسانية قاطبة.ولم تقتصر هذه المخاطر على الجوانب المالية والاقتصادية بل شملت كذلك الجوانب المناخية والصحية والاجتماعية .
وق عاشت الإنسانية وواجهت الكثير من المخاطر التي تهدد كيانها ومستقبلها .وقد دفع حجم هذه التحديات المسؤولين في كل المستويات والدول والمؤسسات الدولية إلى الاستعانة بالدول لحمايتها في معركة الوجود التي تعيشها اليوم.
كما ساهمت السياسات العمومية التي تم تحديدها منذ الأزمة المالية العمومية لسنوات 2008 و2009 بالانفجار النووي في اليابان ووصول إلى الحرب ضد الجائحة في الخروج من نظرية الدولة المعدلة والدخول تدريجيا في تصور جديد لهذه السياسات .
كما يمكن أن نشير إلى الأعمال النظرية والبحوث والدراسات التي بدأت في البروز في السنوات الاخيرة لعدد كبير من الاقتصاديين والمفكرين والتي تنادي بضرورة ضبط وتحديد تصور جديدة لدور الدولة .واذكر من هؤلاء الباحثين الفائزين بجائزة نوبل ستيقلتز (Stiglitz) وكرقمان (kugman) وداني رودريك (Dani rodrike) وناريانا مزوكاتو (Mazzucato).

تعيش اليوم اغلب المجتمعات والمنتديات الفكرية ومراكز البحث على وقع النقاش حول الدور المستقبلي للدولة .وتؤكد هذه النقاشات على نهاية المنظومة التي أعطت دورا ناعما للدولة يقتصر على تعديل السوق وضرورة المرور إلى دور نشيط لمواجهة التحديات التي تعيشها مجتمعاتنا .ونتج عن هذا دور جديد للدولة في السنوات القادمة .

وسأقدم في هذا المجال مفهوما جديدا هو الدولة المحَرّرَة» والتي تجسد في رأيي التصور الجديد الذي يجب للدولة أن تلعبه ليكون دورها يهم تجميع الطاقات المجتمعية لتحريرها في مواجهة المخاطر الكبرى ولإرادة التحولات الكبرى في إطار تشاركي وديمقراطي .
ويهم الجانب التحرري على الدولة الجديدة مستويين رئيسيين .المستوى الأول جماعي يسعى إلى بناء المشترك الجمعي والعقد الاجتماعي كأساس لخوض التحديات الكبرى ومواجهة وإعادة الثقة للإنسان في قدرته على الفعل وتغيير واقعه نحو الأفضل .
أما المستوى الثاني لتدخل الدولة المحررة فيهم الجانب الفردي من خلال وضع السياسات والمؤسسات القادرة على دعم دور الفرد وتشجيعه على إنجاح مشاريعه الفردية لتحسين أوضاعه وإعطائه الإمكانيات لتطوريها نحو الفضل.

والدولة «المُحرّرَة» ليست في رأيي عودة إلى الماضي والى دولة الرفاه والتي تختلف عنها بطريقة جذرية على ثلاثة مستويات على الأقل.المستوى الأول الاختلاف يهم الدولة ففي حين يهم هذا الدور حماية المجتمعات في دولة الرفاه يتطور مع الدولة المحررة إلى تفجير الطاقات الجماعية والفردية من اجل مواجهة المخاطر وبناء الأفضل .كما تختلف هاتين الرؤيتين في المنهج حيث تعتمد دولة الرفاه على علاقة أفقية بالمجتمع بينما تنخرط الدولة المحررة في منهجية اقل مركزية وأكثر انفتاحا على المشاركة المجتمعية .أما نقطة الاختلاف الأخرى بين الرؤيتين فتهم إمكانية الفرد والتي بدورها تبدو ضعيفة في دولة الرفاه والتي تعطي الأولوية للجمع بينما تنخرط الدولة المحررة في التطور الكبير للمشروع الديمقراطي من خلال إعطاء دور كبير للفرد في مواجهة المخاطر والتحديات .
إن صياغة هذا المفهوم الجديد لدور الدولة يتطلب مزيدا من البحث والدراسة .إلا انه تكمن الإشارة إلى بعض الأفكار الأولية في مهام ومبادئ وسياسات الدولة المحررة .
فيما يخص المهام فان دور الدولة المحررة هو تحديد التصورات والرؤى الكبرى بطريقة تشاركية والتي شكل أساس المشترك الجمعي والعقد الاجتماعي .

أما في ما يخص المبادئ فنود الإشارة إلى بعض المبادئ التي أصبحت شائعة في مجتمعاتنا والتي يجب أن تعود الى الدولة المحررة.ومن ضمن هذه المبادئ يمكن أن نشير إلى الشجاعة في ضبط الرؤى والتي يجب ان يكون لها تأثير اجتماعي ، بوضوح الرؤيا وسياسات تشجيع البحث العلمي وتحديد أهداف مرقمة للوصول إليها .

ويمكن أن نشير إلى السياسات التي يمكن للدولة المحررة أن تتبعها في كل المجالات ومن ضمنها : دعم المغامرين،بنماء علاقة تكامل مع السوق ، تشجيع الحب وبناء الآراء الجديدة وتقليص المخاطرة في القطاعات الجديدة .
تقر الجمعيات الديمقراطية بتحديات ومخاطر كبرى دفعتها إلى إعادة التفكير في دور الدولة وجعله مدافعا نشيطا في إستراتيجية درء هذه المخاطر .وجاء مفهوم الدولة المحررة للتعبير عن هذه الإرادة الجمعية والفردية لهذا الحشد لفتح آفاق جديدة للتجربة الإنسانية .
ولابد لنا من خوض هذا النقاش في خضم الأزمات المتعددة التي تعيشها بلادنا من اجل تحديد دور جديد للدولة.

• من الدولة الهجينة إلى الدورة المحررة
مرت بلادنا منذ انطلاق شرارة الثورة في 2011 بأزمة عميقة على عديد المستويات منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمالي.وقد اشرنا في عديد المساهمات إلى الأسباب العميقة لهذه الأزمة ومن ضمن هذه الأسباب يمكن الإشارة إلى الأزمة العميقة والتفكك الذي عرفته الدولة الوطنية في السنوات الأخيرة .

وفي رأيي تكمن أزمة الدولة الوطنية في التقاء أربعة عناصر أساسية ساهمت في تراجع دورها وخاصة في تقلص ثقة المواطنين وإيمانهم بقدرتها على مجابهة المخاطر الكبرى التي تواجهها بلادنا .
يهم العنصر الأول في هذه الأزمة تذبذب ماهيتها بين الرفاه والتعديل .وقد خلق هذا التذبذب دولة هجينة غير قادرة على تحمل مسؤوليات الرفاه ولا يمكن مكن لها أن تتحول إلى دور تعديلي أمام حجم التحديات .
أما العنصر الثاني الذي ساهم في أزمة الدولة فيخص تراجع دورها الاستشرافي مما جعلها غير قادرة عل قراءة وفهم التطورات الكبرى وبالتالي عجزها عن رسم السياسات الضرورية لمجابهة المخاطر المحدقة كما اثبت أزمة الجائحة وانعكاسات رهيبة على الصحة العمومية .
ويعود العنصر الثالث في أزمة الدولة إلى الوضع المتردي للمالية لعمومية وعجزها المتزايد المتزايد عن مجابهة التزاماتها الداخلية والخارجية .
ويمكن أن نشير إلى العنصر الرابع وهو ضعف مؤسسات الدولة وبصفة خاصة الأمنية منها مما فتح الباب أمام الإرهاب والجريمة .

هذه الأزمة المتعددة الجوانب والأبعاد كانت وراء بروز هذه المسالة في النقاش العام .ولكن هذا النقاش انحصر في رأيي بين موقفين أساسين : الرجوع إلى دولة الرفاه» الحامية» أو الانخراط نهائيا في الدولة المعدلة وفسح المجال للسوق لتحطيم المجال الاقتصادي .
وفي رأيي فإن أي من النظيرتين لا يمكن لها أن تمكن الدولة من تجديد دورها في الديناميكية الاقتصادية والاجتماعية .فالعودة إلى دولة الرفاه تبدو صعبة باعتبار الأزمة المالية الخانقة .كما أن الدولة المعدلة لن تكون في مستوى التحديات الاقتصادية والاجتماعية والمخاطر الجاثمة .
وفي رأيي يمر الخروج من هذه الأزمات عبر المرور الى الدولة المحررة والتي تعمل على تعبئة الإرادة الجماعية والطاقات الفردية من اجل مواجهة المخاطر الكبرى وبناء تجربة تاريخية وعقد اجتماعي جديد. وهذا التحول يتطلب إيجاد الحلول الضرورية لازمة المالية وبناء طاقاتها الاستشرافية لصياغة السياسات وتقوية مؤسساتها لفرض عنفها الشرعي .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115