منبــــر: إصلاح القضاء وحجرة سيزيف

الحديث على القضاء و تقديم اقتراحات قصد اصلاحه يفترض أولًا إرادة حقيقية في بناء قضاء مستقل متشبع بقيم حقوق الإنسان عادل

ومبدع و ثانيا معرفة حقيقية لتاريخه و حاضره وعدم الاكتفاء بجمل جوفاء وسطحية «قضاء البحيري» قضاء فاسد إلخ..

لهذا أمام المطالبة اليوم بحل المجلس الأعلى للقضاء أو الإعلان عن حله يتبين بوضوح أن رئيس الجمهورية ومسانديه أما يريدون تطويعه للأجندات السياسية لا أكثر ولا أقل أو على الأقل فهم غير مطلعين على واقع السلطة القضائية و تطوراتها الداخلية و خاصة واقعه بعلاقةبماضيه.
لذلك فأنني من منطلق تجربتي المهنية والحقوقية على امتداد أربع عشريات خاصة كمحامية حاملة للزي وفي مواجهة يومية مع القضاءأسمح لنفسي بإبداء رأيي متمنية أن نناقش هذه المسألة بعيدا عن الشعبوية السائدة والتشنج الذي ساد النقاشات منذ 2011 بفضلحرية التعبير.

أولًا القضاء التونسي يعاني من كل الهنات التي نعرفها منذ الاستقلال إذ أن الحكومات المتتالية والروساء وخاصة بورقيبة وبن علي سعوا إلى إخضاعه واستعماله لأهداف سياسية ومصالح اقتصادية للسلطة وحاشيتها وهنا أمثلة تعد بعشرات الآلاف من المظالم التي عاشها تونسيون وتونسيات على اختلاف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية بما فيهم من مروا بالحكم. فالموضوع ليس بجديد الجديد هو تجرؤ الناس على التعبير ونقد السلطة القضائية لزوال الخوف الذي ساد بلادنا على امتداد عشرات السنين. ولكن المزعج أن يكون هذا النقدالذي يصل للتشهير والثلب وترويج أخبار زائفة تحت تأثير إحدى السلط الأخرى لا من منطلق تعزيز التفرقة بينها دون الأخذ بعينالاعتبار نضالات القضاة والقاضيات النزهاء وهياكلهم التمثيلية إذ ان الحركة المنادية بالاستقلالية و النزاهة والحياد برزت منذ أوائل الثمانيات من خلال تاسيس جمعية القضاة الشبان التي كانت تضم لا فقط القضاة والقاضيات النزهاء وأصحاب وصاحبات الكفاءة العالية بل أيضًا أشجعهم لأن مجرد الحديث على استقلالية القضاء آنذاك يعد جرما يعاقب عليه من طرف السلطة التنفيذية من خلال الترقية والنقل.

وتميزت تلك الفترة بانسجام و تعاون غير مسبوق بين هياكل المحاماة و القضاء بدأت تجند المائات من القضاة و القاضيات لمطالبة السلطةالتنفيذية رفع يدها على القضاء من خلال المجلس الأعلى للقضاء الذي كان أعضاؤه معينين من طرف السلطة التنفيذية وفي خدمتها.
وكانت فرصة حتى للقضاة والقاضيات المعتبرين «خاطيهم» للخروج من صمتهم و الوقوف مساندين التوجه التحرري و النضالي مما أثارغضب بورقيبة الذي حل الجمعية و أحال أعضاءها و عضواتها على ما يسمى مجلس التأديب الذي هو المجلس الأعلى للقضاء .
وكانت الجلسات التأديبية رهيبة بحضور مكثف للمحامين والمحاميات و لما جاء في أجوبة المحالين و المحالات من خطابات اصرار علىتحقيق قضاء عادل يطمئن المتقاضين على حقوقهم و حرياتهم.

وتعلق في ذهن كل من حضر هذه الجلسات جمال صورة القاضية و الفنانة (نعم قاضية تعزف العود وتغني فيروز) عقيلة جرايةالتي وضعت وردة حمراء فوق سترتها.

وشكك كل الحاضرين و الحاضرات في نزاهة واستقلالية و حياد أعضاء المجلس المنتصب للتأديب و انصياعهم للسلطة التنفيذية التيأملت عليهم مسبقا العقوبات و التي تراوحت بين العزل النهائي والإيقاف عن العمل مدة خمسة سنوات.
وطالت العقوبات جل القضاة الذين تعاملوا مع الجمعية و ذلك بطريقة غير مباشرة من خلال النقل والحرمان من الترقية.

وبعد 7 نوفمبر تم العفو عليهم و لكن لم يتغير وضع القضاء إذ واصلت السلطة التنفيذية نفس سياسة الترغيب و الترهيب وذلك من خلال شبكة من قضاة لا هم لهم إلا تقديم خدمات للسلطة قصد الحصول على منافع مثل عدم النقلة أو النقلة إلى مدن قريبة وساحلية والحصول على مناصب مع امتيازات وعقارات إلخ مقابل الانقلاب على الجمعية التونسية للقضاة التي تأسست في 1990 والتنكيل بأعضائها وعضواتها على امتداد سنوات من نقل وحرمانهم من الترقية إلى المراقبة الأمنية إلخ.

وارتكبت كل المظالم لا فقط ضد المعارضين بل أيضًا ضد مواطنين لا علاقة لهم مع الشأن العام في ظل أغلبية صامتة و مرعوبة من القضاةو القاضيات لخوفهم من تبعيات أي صمود .بل أكثر من ذلك جزء كبير منهم يسعون إلى التخبي بأن لا تحال أمامهم ما كان يسمى «القضايا الحساسة».
ليست هذه المساحة للحديث عن مئات المظالم التي ارتكبت على امتداد عشريات دون أن تصل للرأي العام بل ظلت محصورة في وسط ضيق و سأكتفي بإعطاء صورة مقتضبة عن بعض الممارسات اليومية التي أحب أو كره هؤلاء المطالبون بحل المجلس الأعلى للقضاء والتيزالت بعد الثورة قناعة أو خوفا من التشهير.

فقبل الثورة كان من السهل أن لا يقبلك القاضي في مكتبه للاطلاع على الملف كنا ندخل لمكتب القاضي (ة) لنسأل على التصريح بالحكم فنجد رئيس الدائرة محدقا بعينه على الهاتف ينتظر التعليمات وعندما ييأس يطلب أي موظف بالوزارة لكي يتولى هذا الأخير الاتصالبالوزير قصد الحصول عليها .أكثر من مرة وعند تصوير قبل انعقاد الجلسة نجد كل حيثيات الحكم وقرار الإدانة جاهزا .

وحصل أكثر من مرة ان يمنع المحامي أو المحامية أصلا من الحضور في الجلسة أو من الترافع في القضايا السياسية أين تنتهك كلالحقوق أقلها أن القضاة كانوا لا يرفضون فقط معاينة اثار التعذيب على المتهم (وهي في عدة حالات بارزة للعيان) بل يرفضون تسجيلمطلب المحامي (ة) طلب المعاينة.
هذه ليست إلا عينات من ممارسات ممنهجة ويومية تحرم المواطنين و المواطنات من أدنى شروط المحاكمة العادلة.

وكان الجميع يتصورون أن الثورة ستسرع بإصلاح القضاء حتى يسود العدل بين الناس و يطمئن الجميع على حقوقه .

لكن هذا لم يحصل أو على الأقل ليس بالنسق المطلوب و كما هو كان منتظرا رغم بداية وعي لدى أغلبية المعنيين أنها فرصة فريدة خاصة بعدإرساء المجلس الأعلى للقضاء المنتخب .
ولكن لسائل أن يسأل هل وقع إصلاح الدولة أو الإدارة أو أي مؤسسة أو قطاع أو لا منظمة أو حتى جمعية في بلادنا؟ طبعا لا وهل يمكن إصلاح سلطة كاملة في ظل غياب تغيير جذري في الفضاء العام.
فسعيد صدق لما نعت كل المنظومة بأنها فاسدة ولكنه غير قادر على إصلاحها أو لم يمكن نفسه من آليات الإصلاح بل بالعكس.

فبالنسبة للقضاء بالذات لا فرق بينه و بين خطابات جزء من المجتمع وخطابات الفاعلين إذ غالبا ما يكتفون بالوصف و بل بالتشهير دونالخوض في تشعب عملية الإصلاح و مستلزماتها .

اكثر من هذا هو بتعيين قضاة و قاضيات في مناصب سياسية يساهم في تشجيعهم على الولاء للسلطة للحصول على امتيازات بل هي مايسمى سياسة الترغيب التي تصاحب الترهيب و ذلك بالسب و التهديد اليومي .
و هو يشجع على هذا الأكثر جشع و طمع و ليس الأكثر نظافة و استقامة و استقلالية وكفاءة .و هذا ما حصل فعلا في عدة تسميات بلالغريب أنه رغم مرور اكثر من سنتين لم يعين أي رمز من رموز النضال .
كما يتجه التذكير أن استقلال القضاء حلم الشعوب وليس حلم الحكام إنما لضمان حسن تطبيق القانون فكيف لرئيس لا يعترف لا بدستورو لا بقانون أن يصلح القضاء أو حتى يعطي المثال في هذا المجال ؟

مثله مثل هؤولاء الذين يلومون على القضاء عدم قيامه بالإصلاح لا يتساءلون على مدى تقدم القطاع أو المنظمة أو المؤسسة الذين ينتمونإليها في اتجاه معالجة وضعها وضمان الديمقراطية و الشفافية و النزاهة ؟

طبعا كل هذا لا يبرر عدم نجاح السلطة القضائية في كسب ثقة الناس بعد مرور أكثر من عشرة سنوات من المسار الديمقراطي و بعدالإصلاحات التشريعية وخاصة تركيز المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وتحسين الظروف المادية للقضاة و القاضيات .
طبعا من حقنا أن نحاسب القضاء و من حقنا الضغط عليه للتسريع باستكمال الاصلاح خاصة و أننا عانينا من وضعيته قبل الثورة و حتىمباشرة بعدها و أتذكر أنه مباشرة بعد 14 جانفي نقدت أصدقائي و صديقاتي مجموعة 25 محام رغم احترامي الشديد لأغلبيتهم .كمارفضت الدفاع على حد السواء ضحايا الاستبداد و المتهمين في انتهاكات حقوق الإنسان وذلك لاقتناعي عدم توفر شروط المحاكمة العادلةللطرفين .

كما تصورت خطأ كما يتصور العديد من الناس اليوم أن بلوغ قضاء عادل و مستقل لا يتطلب إلا إرادة الأفراد لكن تيقنت بعض مدة قصيرة أن العملية ستكون عسيرة و معقدة لهذا كنت من المعارضين لعدم تطبيق مبدأ سلطة الشيء المقضي به في قانون العدالة الانتقالية2013 وعارضت امكانية إعادة المحاكمة باعتباره استثناء و ذلك لأن لا يطرح إلا إذا استوفى القضاء اصلاحه و اقتناع الجميع بما فيهمالمتهم أن المحاكمة الثانية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115