منبر: كيف نفهم ما يحدث اليوم في تونس : التشخيص والتوصيف المغلوط

1. كل هذه الضبابية السياسية التي تمر بها بلادنا اليوم ناتجة حسب اعتقادي عن غياب تشخيص حقيقي وواقعي للوضع السياسي والاجتماعي و الاقتصادي

من ناحية والتوصيف الموضوعي لتموقع تونس ضمن العلاقات الدولية من ناحية أخرى، كل الطبقات السياسية المتعاقبة على كراسي الحكم اعتمدت على معطيات وإحصائيات وتقارير مغلوطة عن غير قصد ومزيفة عن قصد.
لتأكيد هذا الانحراف تلتجئ الطبقة السياسية بصفة مباشرة إلى من نعتوا أنفسهم ب»الخبراء والمحللين السياسيين» لمساندتهم عن طريق ما يسمى بالمساندة النقدية والنقد البناء.

2. في كل أزمة تطالب كل النقابات والاتحاد العام التونسي للشغل خاصة الحكومات المتتالية بالإدلاء بالحقيقة حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي حتى لا يبقى المجتمع جاهلا بحقيقة الوضع وضحية لفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتحالفات الحزبية الانتهازية من اجل البقاء في السلطة.
وقد بات هذا الشكل من الحوكمة روتينيا وطبيعيا لدى من يمسكون بزمام الحكم، فكل هذا الانحراف السياسي تتبناه الطبقة الحاكمة دون أي حرج لفقدان المحاسبة الأخلاقية والسياسية.

3. وليست هذه الصورة حديثة العهد بالعشرية الأخيرة من تاريخ تونس بل لها جذور راسية في سلوك الطبقة السياسية التونسية.
على سبيل الذكر لا الحصر نذكر بعض الأمثلة من هذه السلوكيات التي أدت إلى أزمات سياسية خطيرة وتدهور في الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتهميش للبعد التنموي في السياسات الاقتصادية :
- التشخيص السياسي و»الأمني» الذي اعتمده الحزب الحر الدستوري بعد محاولة الانقلاب واعتبرته الحكومة من بعده واحدا من أهم عناصر إستراتيجية السلطة آنذاك للتأسيس لشرعية الحزب الواحد.
- التشخيص المغلوط الذي اعتمده الحزب الدستوري الاشتراكي والذي أدى الى فرض نموذج اقتصادي مسقط على الشعب، لا يتلاءم مع خصوصيات المجتمع التونسي وخاصة صغار الصنايعية والتجار و الفلاحين الذين يمثلون نسبة هامة من المجتمع.
ومن المضحكات المبكيات أن الطبقة السياسية آنذاك كانت تشيد بعبقرية الحكومة وبانجازاتها الوهمية في كل الخطب السياسية.
هذا المناخ أدى بالطبع إلى ترسيخ ثقافة الدكتاتورية وهيمنة الحزب على الحكم واحتكار السلطة في يد بعض الأشخاص وفرض المنطق الجهوي.

- وبعد هذه الأزمة السياسية والاقتصادية جاءت طبقة سياسية «جديدة» لتجلس على كراسي الحكم وشخصت الوضع الاقتصادي عبر منظور تنموي أوروبي يعتمد الرأسمالية منهجا وأسست لطبقة ثرية هدفها جمع المال مهما كانت الوسيلة وبغض النظر عن انعكاساتها السلبية على المجتمع.
كسالفاتها كانت هذه الحكومة تصدر تقارير وإحصائيات تتغنى بالمعجزة الاقتصادية التونسية. ولا يخفى على احد كيف انتهت هذه الفترة بأزمة سياسية سوداء في 26 جانفي 1978 أو ما يسمى ب»الخميس الأسود».

- وبعد ذلك أصدرت حكومة مزالي التي تلتها تقارير وتحاليل صادرة عن الحزب الحاكم تدعي ع أن الدولة التونسية قد حققت اكتفاءها الذاتي من المواد الأولية ولا حاجة لتدعيمها.
وقد شارك في هذه الفترة كغيرها من الفترات العديد من المثقفين الذين ساهموا في دعم مشروعية هذه السياسات. والكل يعلم كيف انتهت هذه الفترة بثورة عارمة هي « انتفاضة الخبز».
وفي تلك الفترة التف «المثقفون» حول الحكومة وتسارعوا لمساندتها

- ونسجت الحكومة التي تلتها على نفس المنوال و شخصت الوضع من خلال تقارير تتباهى بالاستقرار السياسي في تونس والتزام كافة الشعب بالبورقيبية ومناشدة ترؤس الزعيم الجمهورية مدى الحياة. وبعد اقل من سنة حصل انقلاب و»سجن» هذا الرئيس مدى الحياة.

- وجاء ابن علي بحكوماته المتتالية وتحول التشخيص إلى ثقافة كاملة تمدح نجاح البلاد الباهر في كل القطاعات واقتنعت الطبقة السياسية أنها قادت تونس لتصبح «نمر إفريقيا» الاقتصادي.
وكثرت المغالطات الإحصائية وزاد لغط «الخبراء» والصحافيين والمثقفين وأصبح التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب النموذجي و»مثال للاقتداء به» في بقية الأمصار.

- وبالطبع كل هذه التشخيصات الوهمية هي التي أدت إلى إسقاط النظام الدكتاتوري «المثالي»، وفاجأت الثورة المستشرفين والاستراتيجيين وخبراء العلوم السياسية لأنهم اعتمدوا تشخيص مزيف للوضع خاصة في العشرة سنوات الأخيرة من حكم بن علي. وظلت عدة تقارير أنجزها هؤلاء شاهدة على انعدام حسهم الوطني وانعدام مصداقيتهم العلمية.

- وبعد الثورة جاء من كان جاهلا بخصوصيات المجتمع التونسي واقتنع بان الشعب يطمح إلي تأسيس إمارة إسلامية يرعاها شيخ بمساعدة جماعة «تخاف ربي».
وانتشرت الخيم السوداء والرايات الجهادية واحتلت المساجد وبعض المدارس و أصبحت بعض الجماعات مختصة في تطبيق نظام الإمارة المنشودة وظهرت أيضا العديد من الجماعات الأخرى التي كلفت بتطبيق ما اعتبروه حكم الشريعة الإسلامية. ثم حاول هؤلاء توظيف الدستور لإتمام هذا المشروع و قامت هذه الجماعات بالتهجم على الفنانين وتحريم التظاهرات الثقافية وذهبت بهم نخوة النجاح واحتكار السلطة إلى الاعتداء على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في ذكرى اغتيال الزعيم فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر .2012
ما جاء بعد هذه الأزمة معروف، فكل الحكومات حاولت إخفاء الوضع الحقيقي ودخلت البلاد في المجهول وحساب الذاتيات والأنانية السياسية والجري وراء السلطة والثروة لدرجة أن احد وزاراء الثقافة رفض برنامجا وطنيا خاصا بجرد الممتلكات الثقافية حتى يبقى هذا القطاع مفتوحا للنهب والسرقة . وغابت التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعوضت بالفساد السياسي والتحالفات الظرفية دون مرجعية سياسية أو اديولوجية.

4. الغرض من كل ما سبق ليس مجرد النبش في دفاتر الحكم التي يراد تغييبها وتزييفها وإنما اطلب ممن هم على السلطة اليوم أن لا يعتمدوا على تشخيصات وتوصيفات مغلوطة ومزيفة وان يستخلصوا الدروس مما سبق وان يقوموا بمصارحة الشعب حول الوضع مهما كانت الخطورة التي تكتسيه وذلك لأجل بناء مشروع سياسي حقيقي يخدم المجتمع والمؤسسات والوطن بكل ما تشمل هذه الكلمة.
وفي النهاية اذكر بأن كل من يقوم بمغالطة الشعب سيكون أول ضحية لتشخيصه المغلوط والمزيف.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115