قد تكون التعلات عديدة ومنها مزيد من الشفافية، ولكن أثبتت التجارب أن تدليس الوثائق التي تطلبها الدولة في المناظرات أو في غيرها من الإجراءات تتضاعف كلما طلبت من مواطنيها إمدادها بنسخ مطابقة للأصل. يُفترض إذن ألا تطلب الدولة وثيقة من مواطنيها في حين تتولى إسنادها.
تكشف هذه الممارسة القديمة والمملّة أن الدولة لم تدخل بعدُ مجال الرقمنة بالشكل المطلوب وتكشف أن الإدارة التونسية لا تزال تحت وطأة مركزية مقيتة وغير قادرة على الاستفادة من التطورات المتلاحقة في الاتصال الرقمي. إن الدولة التي تصرّ على إثقال كاهل مواطنيها بمثل هذه الإجراءات البيروقراطية لا تستطيع أن تبتكر منوالا تنمويا جديدا. وهذا ما تعبر عنه الدراسات الكمية والكيفية التي تتناول علاقة الشباب بالمجال الاقتصادي وبالمبادرة الاقتصادية الفردية ويعتبر أغلبهم أن العائق الكبير أمام ولوج عالم المبادرة الحرّة هو هذا الثقل الإداري وهذه الوثائق الموغلة في التعقيد وفي الرتابة.
لم تتخلص الدولة إلى حدّ الآن من الثقافة المركزية في تسييرها لشؤونها، ولم تدرك أن هيمنتها على كل المفاصل ومراقبتها لكل شيء تقريبا هو حاجز أمام أي إقلاع اقتصادي. والتنظيم الإداري المتبع إلى حدّ الآن والذي انتهى مفعوله منذ سنوات هو الآخر مكبّل لديناميكية شاملة نحتاجها الآن في مرحلة الانتقال الديموقراطي. إن هذا الانتقال ليس فقط عملية سياسية أو انتخابية، هو أيضا تغيير في الأسلوب الإداري المتبع وفي الإجراءات المنفرة لأي استراتيجية تنموية. إذ أن كل وثيقة إدارية وكل إجراء إداري إضافي هو إمكانية أكبر للفساد، هو أمكانية للابتزاز الإداري وتوسيع لمسالكه. وإذا اعتقدت الدولة أنها بثقافة النسخ المطابقة للأصل و التعريف بالإمضاء ستكون قوية باستمرار، فإنها على العكس من ذلك ستكون دولة ضعيفة باستمرار.
ينمّ السلوك الإداري للدولة عن خوف كبير. والدولة لا تسيطر على مواطنيها بالأمن فقط بل بالإدارة أيضا. والإدارة هي السلطة الناعمة للدولة توزع من خلالها مختلف المغانم كي تهيمن أكثر وكي يكون حضورها في أذهان مواطنيها أضمن وأبقى. لهذا لا تكون الدولة وخصوصا عندما تكون دولة مبنية على ثقافة المركزية مستعدة لتسلم سلطتها لأي كان حتى ولو كان من داخلها. وهذا ما يجعل توجه الدولة إلى المحليات أمرا محفوفا بكثير من المطبات فلا الدولة في جانبها المركزي مستعدة الاستعداد اللازم لذلك ولا المحليات قادرة على التصرف دون الرجوع إلى المركز. وهذا عائق كبير أمام أي إقلاع اقتصادي أو منوال تنموي جديد.
ما يحدث الآن من تعطيل واضح للمشاريع في جميع أشكالها هو نتاج ثقافة النسخ المطابقة للأصل والتعريف بالإمضاء، أي ثقافة الدولة التي تراقب وتشرف على كل المفاصل. تتسابق الدول الآن حول الوقت المخصّص لإنشاء الشركات والمشاريع وتتجه نحو إرساء كل ما من شأنه أن يقلّص الأزمنة وصولا إلى الهدف. وفي الوقت الذي تشكو فيه الدولة من تدليس للشهائد العلمية عند الانتداب في الوظيفة العمومية يجب عليها تغيير مقاربتها للمسألة، إذ تطلب الدولة وثائق هي التي تقوم بإسنادها. هنا عليها أن تتحول وبشكل واضح إلى دولة الرقمنة التي تضيق الخناق على أي عملية تدليس أو ابتزاز.
تُثبت تجارب الدول أنه يمكن بالرقمنة أن نقلص إلى حدّ بعيد من حالات الفساد. ويمكن أن نؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة و مواطنيها بالطريقة التي تجعل التنمية في الطريق الذي تحتاجهُ.