هكذا تعلمنا النظرية المادية التاريخية التي تعتبر أن التغيرات السياسية لا تعدو إلا أن تكون في مجملها و في توجهها العام استجابة لمصالح اقتصادية لطبقات اجتماعية معينة. كما تعلمنا تلك النظرية أيضا أن الدولة لا تعدو أن تكون في المجتمعات الرأسمالية ( مثل المجتمع التونسي) سوى أداة لسيطرة الطبقة البورجوازية و الفئات المتحالفة معها على الطبقات الشعبية و على الطبقة الشغيلة أساسا (الحكومة العصرية ليست سوى هيئة لتسيير الشؤون العامة للطبقة البورجوازية بأسرها- كارل ماركس- البيان الشيوعي).
• البورجوازية «الرثة» : الزبونية عوض الديمقراطية
نظريا تسعى البورجوازية إلى إحلال الحريات والديمقراطية. لان الليبرالية السياسية :تمكنها من مساحة هامة للليبرالية الاقتصادية حسب المقولة الرأسمالية الشهيرة» دعه يفعل..دعه يمر» laisser faire laisser passer
صحيح أن البورجوازية التونسية و خاصة الفئات المتنورة منها les franges éclairées ساندت الثورة و رجحت كفتها في الأيام الأخيرة لحكم بن علي بعد أن ضاقت ذرعا بالاستبداد والفساد في النظام السابق والذي أصبح عائقا حقيقيا لتطورها. بعد ذلك رافقت البورجوازية التونسية مسار الإنتقال الديمقراطي و ساندته رغم التحفظات و محاولات النكوص إلى الوراء وتوج بالحوار الوطني لسنة 2013 والذي لعب فيه اتحاد الصناعة و التجارة دورا هاما مما مكن من دفع عملية الانتقال الديمقراطي بعد العطب إلى حد الشلل الذي وصل إليه.
لقد مثل الانهيار الاقتصادي وانهيار الإدارة الذي عقب الثورة ثم تغلغل الإرهاب و أخيرا جائحة الكورونا منذ سنتين (هذا الثالوث الكارثي) كانت عوامل خطيرة أدت إلى انهيار مصالح قطاعات هامة من البورجوازية التونسية. و بعد أن كانت «البورجوازية» الإبن المدلل للدولة التونسية خلال نصف قرن جعلت الديمقراطية الانتقالية مصالح البورجوازية مهددة وغير مضمونة كما كان الأمر في السابق. فالبورجوازية و خاصة قطاعاتها الرثة المتخلفة و العاجزة عن المنافسة و المعادية للديمقراطية تعتبر أن قضاء مصالحها يكون أكثر يسرا و سهولة بنظام مركزي يحكم فيه شخص واحد. فهو يمكنها من الوصول إلى الشبكة الزبونية التي يخلقها نظام الإستبداد لقضاء مصالحها عوض الصعوبات التي كانت تلاقيها في ظل توزع السلط بين الرئاسة و الحكومة و البرلمان و البلديات. لا شك أن هناك قطاعات بورجوازية لا زالت تعتبر أن الديمقراطية هي المنظومة الأنسب لها على المدى المتوسط و البعيد. إلا أن القطاعات «الرثة» من البورجوازية كانت لها اليد العليا و أصبحت تتعجل و تضغط لإنهاء حالة الديمقراطية غير المستقرة والتي تتجاهل استحقاقاتها ومصالحها.. وبالنهاية فإن البورجوازية بمختلف شرائحها قادرة أكثر من كل الطبقات على التكيف مع الديكتاتورية و حتى مع الفاشية. فلها دوما النفوذ و المال لرشوة الشبكات الزبونية و تحقيق مصالحها مهما كان الحال.
• البيروقراطية العليا للدولة تسترجع «اليد الطولى»
البيروقراطية ليست طبقة بحد ذاتها كما ورد «بكلاسيكيات المادية التاريخية». و لكن بعض المنظرين صنفوها كطبقة اجتماعية انطلاقا من تجربة البلدان الشيوعية في الاتحاد السوفياتي. ففي تلك البلدان و بحكم امتلاك الدولة لكل وسائل الإنتاج أصبحت البيروقراطية الحاكمة (بيروقراطية الدولة) طبقة مالكة لوسائل الإنتاج تتحكم فيها و«استبدلت» دور الطبقة العاملة التي من المفروض أنها تمثلها مما حدا بالبعض إلى تسميتها بالبيروقراطية البورجوازية.
أما في البلدان الرأسمالية فقد اضمحل دور بيروقراطية الدولة و وكادت لا ترى ( إذا استثنينا الجيش و الأمن) بفعل خوصصة القطاع العام وتحريره.
في تونس و خلال نصف قرن كانت البيروقراطية هي التي تتحكم في المفاصل الأساسية للدولة و جزء أساسي من الإقتصاد إذ تسير مؤسسات عمومية هامة بعضها خدماتي وبعضها الأخر ذو طابع ربحي كما كانت تتحكم في مصالح جوهرية مثل الرخص والصفقات والتشغيل.. وذلك يجلب لها مصالح معنوية و مادية عبر شبكات زبونية وعائلية يلعب فيها الحزب الحاكم دورا مركزيا. وكانت تحافظ خلال فترات حكم الاستبداد على علاقات خاصة مع النظام الحاكم ترتكز على الطاعة والزبونية والمصالح المشتركة و الحماية المتبادلة. بعد الثورة أصبحت البيروقراطية العليا للدولة في مرمى نيران الشفافية و المحاسبة والملاحقة. لقد قاومت «الدولة العميقة» كل محاولات التغيير التي كانت تهدد مصالحها. وكانت في أغلب الحالات تسعى لتعطيل الإصلاحات أو الحد منها حتى تبقى لها اليد الطولي على دواليب الدولة. ولا شك أنها تقف اليوم بكل قوة مع فرض نظام حكم فردي مطلق حتى تعود إلى نفوذها «الطبيعي» في السيطرة على أجهزة الدولة بما يؤدي لها من مكاسب مادية أو معنوية في أجواء من العتامة opacité بعيدا عن الشفافية و المحاسبة.
تمثل المنظومة التي هي بصدد التشكل تحالفا للبورجوازية الرثة و البيروقراطية العليا للدولة تسندها في ذلك قطاعات من البورجوازية الصغيرة المذعورة من «عدم الإستقرار» الذي يرافق الانتقال الديمقراطي. فهي تتوهم أن منظومة الحكم الفردي المطلق قد توفر لها استقرارا «كاذبا» والحال أن الإستبداد هو أكبر عامل لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي ويفتح كل الأبواب على مصراعيها للصراع الأهلي والاحتراب. أما الطبقات الشعبية فإن ظهرها إلى الحائط و سوف تكون أكبر الخاسرين من انحسار الحريات الفردية والنقابية والسياسية ملاذها الوحيد للنضال من أجل حقوقها.
منبــــر: انتكاسة الديمقراطية في تونس: من المستفيد؟؟ البورجوازية الرثة والبيروقراطية العليا للدولة
- بقلم عبد المجيد المسلمي
- 11:45 11/01/2022
- 1044 عدد المشاهدات
ككل المنعرجات الكبرى التي تمر بها الشعوب كان «تغيير 25 جويلية» بالضرورة تعبيرا عن انتصار مصالح طبقيىة معينة على حساب طبقات و فئات اجتماعية أخرى.