والمخاطر لمدة محدودة لا تتجاوز عادة ستة اشهر ، بعدها يتخلى وجوبا عن صلاحياته ويعود الى حياته العادية دون سلطة تذكر،،
وطبعا هذا يختلف عن ديكتاتوريي اليوم الذين يهبون انفسهم سلطة غير محددة بالزمن ، ولا يتقيّدون بأية قيود اخرى تحدّ من سلطانهم ،، يرتكبون خلال حكمهم كل الانتهاكات ويستضعفون شعوبهم،،، وهم في الحقيقة متشابهون في امراضهم النفسية ،، وخوفهم المرضي على مناصبهم ،، وعلى قدر الخوف المرضي الذي يمتلكهم من شعوبهم ينكلون بكل معارض لسلطتهم المطلقة...
كثيرة هي الروايات التي تناولت وحشية الديكتاتورية وعددت ماسيها، وعنفها وحروبها العبثية في الداخل والخارج ، ولكن قليلة هي الروايات (العربية خاصة) التي اقتربت من شخصية المستبد وفككت تناقضاتها بين ظاهرها السوي وخفيّها المرضي وسبرت اغوار عقدها النفسية ،ذلك التفكيك الذي يحوّله من شبه الاه يمتلك الحقيقة المطلقة في الصورة الى مسخ حقيقي، تحكمه الامزجة والغرائز ، ويعيش في محيط من الفساد والمؤامرات...
في كتاب «قرن الديكتاتوريات»Le siècle des dictateurs الذي ساهم فيه 24 مؤلفا قدموا خبراتهم وتحاليلهم حول ديكتاتوري العالم ، يقول الصحفي الوليفييه غاز Olivier Guez عن هؤلاء المستبدين: «انهم ليسوا شيئا يذكر أو ربما هم بالكاد يكونون شيئا مهما، هم فاشلون ومهمشون وانتقاميون ، وصلوا الى السلطة بمساعدة شيء ما ، او ما يمكن تسميته بركلة القدر التي دفعتهم» تلك «الركلة» التي قد تفسد حياة الشعوب ، احيانا ، لعقود...
فالصدفة اذن وليست الجدارة هي من تدفعهم الى السلطة والانفراد بالحكم وتدمير العالم بتلك الوحشية احيانا :» ماذا لو نجح هتلر في اجتياز مناظرة مدرسة الفنون الجميلة ولم يخفق ذاك الاخفاق المهين سنة 1908؟ ستكون حياته مختلفة ، دون شك...وكذلك حياة ابائنا وحياتنا نحن» هكذا يقول اريك ايمانيول شميت في كتاب La part de l’autre حول شخصية ادولف هتلر.
المفارقة ان هؤلاء الطغاة هم فقط من يعتقدون انهم بعثوا لتخليص الانسانية من الشرور وبناء العدل على وجه الارض ، وكل الانتهاكات التي يرتكبونها في حق شعوبهم هي فقط من اجل نشر الرخاء والعدل ،،، اعتقاد ساذج سببه تضخم الانا والغرور الذي يرافقهم حتى اخر لحظة .
فادولف هتلر كان يعتقد ، وهو يرتعش من المرض في مخبئه المظلم ، ان استسلام قائد تاريخي مثله وُهب لتخليص الشعب الالماني من كل «انصاف البشر» هو ضعف لايقبل به ، وانه سيقاتل حتى اخر جندي الماني مخلص له حتى وان بقي وحده فانه سيقاتل الى اخر رمق في حياته...
عربيّا ،تُعتبر رواية «ليلة الريّس الاخيرة» للكاتب الجزائري المبدع ياسمينة خضرا ، الرواية التي يتقمّص فيها الراوي شخصية معمر القذافي في الليلة الفاصلة بين 19 و20 اكتوبر 2011،بمدينة سرت، ساعات قبل القبض عليه والتنكيل به ،من الروايات القليلة التي اقتربت من الادب الامريكي اللاتيني في وصف اللحظات الحميمية الاخيرة للديكتاتور ، يظل الريّس في مخبأه معتقدا ان النصر قادم لامحالة لأنه بُعث لنشر العدل في الجماهرية وخارجها، ولذلك سوف لن يخذله القدر، حيث يقول في مونولوجه: «أنا فقط، أبو الثورة، والابن المبارك لعشيرة الغوص القادم من صحرائه لأزرع الطمأنينة في القلوب والأفكار. كنت موسى المنحدر من الجبل، والكتاب الأخضر في يدي بدل لوح الشرائع. كان كل شيء يعلن نجاحي. أنصار الوطنية العربية كانوا يمجدونني بأعلى أصواتهم، قادة العالم الثالث كنت أعلفهم بيدي، رؤساء أفارقة يردون نبع شفتيّ، المتدرجون على طريق الثورة كانوا يقبلون جبيني لينتشوا. جميع أبناء العالم الحر كانوا يطالبون بي. من تراه لا يمجد خالع الملوك وصياد النسور، بدوي فزان المقدسة؟»
وقد حاول ياسمينة خضرا الاقتراب من روايات امريكا اللاتينية ، لكنّه ظل ضمن دائرة الرؤية «التقليدية» في وصف الديكتاتور : يقترب من نهاياته ليصبح انسانا عاديا، يصارع الذات بين لحظات القوة والضعف ، يتأسف على ماضيه ويداري شعورا بالنقص اعتراه منذ صباه ويحمل طول حياته عقدة الشكوك في اصله، فهو أقرب الى شخصية ريتشارد الثالث التراجيدية في مسرحية شكسبير منه الى ديكتاتور معاصر،،،هو الريّس ، المنتقم لماضيه، الذي قال عنه الكاتب انه «كان يشعر انه نكرة ، وهذا ما دفعه الى ان يكون كل شئ.»...
وبعبارة ادق ، لم تكن لرواية ياسمينة خضرا شاعرية غارسيا ماركيز في خريف البطريرك، ولا ذاك الجمال في تصوير القبح ولا حتّى ذاك التحليل النفسي الذي ينغمس في شخصية الديكتاتور وذاته الباطنية ، أي ان يرصد نقائصه ويستقرئ مواطن ضعفه حتى يظهر على حقيقته : نقيضا لما كان العامة يرونه به، فهو يعاني من عزلة خانقة ونقص في بنيته الشخصية وحتى الذهنية ،، وهو امي ، جاهل بقواعد القراءة والكتابة و هو يعيش الخوف الدائم بداخله الى حد الهوس ولا يرى قوّته الافي وجود امّه، «قديسة الوطن»، وهو الى جانب تعطشه للقمع وسفك الدماء ، مقرف ومثير للاشمئزاز حتى في موته،،، وهنا يتحوّل الادب من سرد تراجيدي ، بالمعنى الشكسبيري ،، الى كاشف وفاضح لخفايا الطاغية ونواقصه، خفايا ونواقص لا يدركها الجمهور في غمرة القمع الوحشي والتسلّط وتطبيل البطانة ...
لكن ما نجح فيه ياسمينة خضرا هو وصف تلك التراجيديا العبثية في نهاية الريّس، عبثية تجعل العقيد ، الذي كان يرفل في بزّاته العسكرية مختالا ،يخجل من وضعه المزري الحالي : «بي خجل انني لجأت الى الاختباء في انبوب ريّ، انا الذي كنت ارفع اصبعي على منبر الامم المتحدة محذرا الرؤساء والملوك» أو تلك الحكمة التي أطلقها القذافي في اخر لحظات حياته ، والتي عادة ما تأتي متأخرة لدى الطغاة:
«الحياة بالغة التعقيد و الفظاظة، منذ أشهر ، كان الغرب، ومن دون أي شعور بالعار، يفرش دربي بالمخمل، ويستقبلني بكل مظاهر الشرف، ويطرز كتفيّ كعقيد بأكاليل الغار، سمحوا لي بنصب خيمتي على مروج باريس الخضراء، وهم يضربون صِفحاً عن فظاظتي ويغضون الطرف عن فظاعاتي، واليوم يحاصروني على الأرض كفارٍّ من إصلاحية …. في يوم تكون معبوداً وفي يوم آخر تكون منبوذاً، في يوم تكون أنت الصياد، وفي يوم آخر الطريدة».
مشكلة الطغاة انهم لا يدركون انهم في يوم ما سيصبحون هم الطريدة...طريدة شعوبهم التي جثموا على رقابها وقطعوا انفاسها وانتهكوا انسانيتها لعقود، لان من يبذر الشوك لا يجني الا الجراح ، كما بشّرهم بذلك ابو القاسم الشابي في قصيدته الشهيرة «الى طغاة العالم».