في بعض مخاطر الاستفتاء

يقلم: معتز القرقوري
أستاذ تعليم عال بكلية الحقوق بصفاقس

إن الهواجس التي يطرحها الأمر عدد 117 في علاقة بمستقبل الدستور والنظام السياسي التونسي بصورة عامة تقترن بهواجس من نوع آخر تتعلق باللجوء إلى تقنية الاستفتاء وهي تقنية تطرح العديد من التساؤلات النظرية وكذلك العملية.
مبدئيا نلاحظ أن هنالك توجها عالميا نحو العودة إلى آليات الديمقراطية المباشرة بما في ذلك الاستفتاء الذي يعتبر حسب المتحمسين له والمدافعين عنه الآلية الديمقراطية بامتياز ذلك أن تقنية الاستفتاء تمكن الشعب صاحب السيادة من التعبير مباشرة عن إرادته وممارسة سيادته بدون أي شكل من أشكال الوساطة التي تقتضيها الديمقراطية التمثيلية. أليس من حق الشعوب، في نهاية المطاف، أن تقرر مصيرها ومستقبلها خاصة إذا تعلق الأمر بخيارات مصيرية وفي لحظات فارقة من تاريخها؟
يبدو أنه من الصعب التشكيك في وجاهة هذه الحجة خاصة في ظل أزمة الديمقراطية التمثيلية التي أصبحت عاجزة عن استيعاب المشاكل المعقدة التي تعاني منها المجتمعات الحديثة. غير أن اللجوء إلى تقنية الاستفتاء يطرح العديد من التساؤلات في ظل لانقسامات الحادة التي تشق رجال القانون والسياسة وحتى الفلاسفة حول الجدوى من اعتمادها كبديل من البدائل الممكنة لتجاوز أزمة الممارسة الديمقراطية أو على الأقل كرديف لها. ولعل جانبا كبيرا من الفقهاء يبدي احترازات مبدئية إزاء اللجوء أحيانا المبالغ فيه إلى تقنية الاستفتاء للأسباب التالية :

السبب الأول هو الصبغة المغلقة أو غير القابلة للتنسيب التي تميز تقنية الاستفتاء. فمن جهة أولى تتميز عادة المشاكل أو المسائل المطروحة بمناسبة الاستفتاء بصبغتها المعقدة والمتشعبة والخطيرة أحيانا. ومن جهة ثانية فان المشاركين في عملية الاستفتاء لا تتاح لهم الإجابة عن تلك المشاكل أو المسائل إلا بجواب بسيط وهو نعم أم لا. وفي علاقة بالاستفتاء المطروح على التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية فان الأمر يتعلق بخيارات قد تكون لها أبعاد تأسيسية دستورية وهي خيارات تتميز بالدقة والتعقيد والطابع التقني أحيانا مما يفترض من المشاركين في الاستفتاء معرفة دقيقة والماما كافيا بمختلف الجوانب المتصلة بها وخاصة منها الجوانب التقنية هذا فضلا عن أبعادها القانونية والسياسية المتداخلة والمتشعبة.
مبدئيا فانه يصعب إن لم يكن مستحيلا تبسيط المسائل المطروحة على المشاركين في الاستفتاء كما أنه يستحيل صياغة السؤال بطريقة تأخذ بعين الاعتبار الصبغة المعقدة لهذه المسائل. فالخيار الثنائي نعم أم لا يطرح نفسه كخيار وحيد ليس له أي بديل ذلك أنه من

غير الممكن الإجابة بنعم ولكن أو بلا ولكن. إن الاستفتاء تقنية تسمح فقط بحل الإشكال من خلال المواجهة بين خيارين لا ثالث لهما فإما أن يكون المشارك في الاستفتاء مع أو ضد الإجراءات المراد إتباعها لحل الإشكالات المطروحة. وبذلك فان الاستفتاء، ولئن كان تقنية ديمقراطية من حيث المبدأ، إلا أنه لا يأخذ بعين الاعتبار صعوبة وتعقد الخيارات المطروحة فهو يمكن فقط من المواجهة بين خيارين لا ثالث لهما وهما خياران متناقضان لا مكان فيهما لموقف وسط أو حتى للبحث عن توافقات أو تنازلات.

السبب الثاني هو أن الاستفتاء يحد بقدر كبير من التداول الجماعي الذي سوف لن يشمل في أحسن الحالات إلا الخياران المطروحان سلفا على المشاركين في الاستفتاء. فالاستفتاء لا يسمح بتوسيع النقاش والتداول حول المسائل الهامة التي تكون موضوعا له فالنقاش والحوار ومقارعة الحجة بالحجة هي كلها آليات تبدو مستبعدة في آلية الاستفتاء. وبقطع النظر عن ما آلت إليه أوضاع البرلمان في تونس قبل 25 جويلية 2021 والتي عجلت بإعلان حالة الاستثناء الدستورية بعد أن تحولت المؤسسة البرلمانية إلى مسرح

للصراعات الحزبية والفئوية والشخصية الضيقة والتي لا علاقة لها بجوهر الوظيفة السامية للمؤسسة البرلمانية، فان قوة الديمقراطية التمثيلية تكمن في جدية وعمق النقاشات التي تتم صلب المؤسسة البرلمانية. فالتداول هو لب النظام الديمقراطي ويكون ذلك متاحا خاصة في البرلمان من خلال مناقشة مشاريع القوانين سواء صلب اللجان أو صلب الجلسة العامة.

إن التوسيع الظاهري في قاعدة المشاركين في اتخاذ القرار الديمقراطي بموجب التقنية الاستفتائية يكون عادة وبصورة تكاد تكون آلية، على حساب التعمق والتبصر والتروي في دراسة المشاكل أو المسائل موضوع الاستفتاء. كما أن هذا التوسيع يحرم عادة الفاعلين السياسيين والمدنيين والقوى الاجتماعية الحية من فرصة للنقاش والحوار ومقارعة الحجج وربما التنازل عن بعض الخيارات التي كانت بالنسبة للبعض مسلمات أو قناعات لا يرقى لها الشك أو التنسيب.

السبب الثالث هو أن تقنية الاستفتاء تقنية يسهل تطويعها ويمكن في هذا الإطار الاستشهاد بالتجربة التونسية لسنة 2002 حيث تم إجراء استفتاء بخصوص تعديل الدستور. غير أن ذلك الاستفتاء تحول من استفتاء على القواعد، أي على الأحكام الدستورية، إلى استفتاء سياسي على الشخص. ويعتبر الانحراف بالاستفتاء من أخطر العيوب المقترنة بهذه التقنية باعتبار أن الاستفتاء يتحول بموجب هذا الانحراف من آلية لتمكين الشعب من التعبير عن إرادته وتحديد اختياراته إلى وسيلة لإضفاء المشروعية على الحكام والحال أن المشروعية الحقيقية للحاكم تكمن في طريقة انتخابه الديمقراطية ومدى التزامه بالبرنامج الذي على أساسه وصل إلى الحكم ومدى وفائه للمبادئ الديمقراطية.

كما أن تطويع تقنية الاستفتاء متاحة للطرف الذي يلجأ إليه والذي تعود له، دون سواه، صلاحية صياغة السؤال أو الأسئلة المطروحة على المشاركين في الاستفتاء فغالبا ما تكون طريقة صياغة الأسئلة محددة للأجوبة المنتظرة وبالتالي للنتيجة المنتظرة من العملية الاستفتائية.

السبب الرابع هو أن تقنية الاستفتاء يمكن أن تقسم الشعب إلى فريقين أو إلى كتلتين مواجهتين وربما متصارعتين. فالقطيعة واردة بعد صدور نتيجة الاستفتاء وذلك لأن هذه التقنية لا تترك مجالا كبيرا للنقاش والحوار وتبادل الآراء فكل طرف يتمسك بموقف محدد ويرفض عادة التراجع أو التنازل عنه كما أنه يدافع عن ذلك الموقف في مواجهة مباشرة مع الموقف المخالف.

كما أن الخيارات المبنية على الاستفتاء يصعب لاحقا التراجع عنها أو حتى مراجعتها إذ يقتضي ذلك إما اللجوء إلى الاستفتاء من جديد ويكون ذلك طبعا بإرادة أصحاب السلطة القائمة أو من خلال أسلوب أكثر راديكالية وغير متاح دائما وهو الثورة على الخيارات التي جاء بها الاستفتاء. وبما أن الاستفتاء يتم في عديد الحالات في أوضاع خاصة تتسم بعدم الرضا أو الخوف من المستقبل أو النقمة على المنظومة السياسية أو القانونية القائمة فان إمكانية الندم بعد صدور نتيجة الاستفتاء واردة. فبعض التجارب المقارنة أثبتت أن المشاركين في الاستفتاء لا ينتبهون ولا يركزون عادة على مضمونه وإنما يعبرون عن حالة الغضب التي يعيشونها فيغيب الهدوء والتعقل وتحضر ردود الفعل المزاجية.

غير أن نفس المواطنين المشاركين في الاستفتاء يتفطنون بسرعة إلى أنه تم التلاعب بمشاعرهم ومواقفهم وهو ما يعرف بظاهرة الندم ما بعد الاستفتاء. Le regret post référendum كما أن أحد المخاطر المرتبطة بإعمال آلية الاستفتاء هو أن الخاسر الأكبر هو المبدأ الديمقراطي. ففي المنوال الديمقراطي يكون الخاسر اليوم مقتنعا بأنه سوف تكون له فرص أخرى للفوز في الانتخابات القادمة وهو جوهر فكرة التداول السلمي على السلطة. كما أن هذا الأمل في الفوز مستقبلا يمثل سببا للقبول بنتيجة الانتخابات وعنصرا من عناصر الاستقرار السياسي والاجتماعي.

أما في الاستفتاء فانه لا يمكننا دائما أن نتنبأ بردة فعل الطرف الذي كانت نتيجة الاستفتاء مخالفة لما كان ينتظره أو لما كان يتصوره فقد يتمسك برفض مضمون الحلول التي جاء بها الاستفتاء. وبذلك فانه على خلاف الانتخابات التي تمثل عنصر استقرار في المنوال الديمقراطي فان الاستفتاء يمكن بالعكس تماما أن يتحول إلى عنصر من عناصر التوتر وعدم الرضا لذلك فإننا نلاحظ أن العديد من التجارب تتعامل بكثير من الحذر والاحتراز مع تقنية الاستفتاء وحتى عندما يتم اللجوء إليها فان ذلك يكون بصورة استثنائية جدا ومعقلنة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115