تذكيرنا بأن الأمور سيئة، كفانا تشخيصا إذا. هذه مسلّمة قد تقودنا إلى مزيد من التعقيد، إذن هناك استهانة بالتشخيص وقد تٌفهم ذلك من خلال الرغبة في تغيير الوضع نحو الأفضل.
التشخيص ليس فقط أرقاما تدلّ على الوضع وهو ليس تعبيرا عن سوء الوضع وتردّيه. التشخيص هو إعادة بناء للظواهر التي تُشكل لنا تحدّيا وهو أيضا عمل ذهني لا ينطلق فقط من مما هو مطروح أمامنا ويمكن ملاحظته بطريقة سريعة. التشخيص هو عملية فهم للظواهر وعملية تصنيف لها ووضعها ضمن سياقاتها المختلفة. والتشخيص هو تلك القدرة على فهم مدلول الظواهر من أخرى قد لا تكون له بها علاقة سببية. كرة القدم مثلا يمكن أن تكون أحد أهم المفاتيح لفهم ما يحصل لنا. البطالة عشر سنوات خلت هي ليست نفس البطالة الآن. والهجرة السرية في منتصف تسعينات القرن الماضي هي بالتأكيد ليست نفسها الآن وهي ليست كذلك في عشر سنوات قادمة.
من أدرانا بأن التشخيص الذي نقوم به هو التشخيص السليم؟ هل يمكن أن نخطئ التشخيص بمجرّد فهم مغاير للمشكلات الاجتماعية التي نعيشها الآن؟ من الواضح أن عملية التشخيص هي عملية متواصلة وتحتاج إلى مقولات تكون منسجمة أو ناطقة بالسياق الذي نتحرك داخله. ولهذا نحتاج إلى ضبط المقولات التي نستعملها في التشخيص. ماهي هذه المقولات التحليلية؟ ماهي طبيعتها؟ و ما هو مستوى تأثيرها في الواقع الذي ينتج هذه الظواهر؟ وهل نحتاج لنفس المقولات التحليلية التي وقع استعمالها منذ عشرين سنة مثلا لنقرأ بها واقع الحال الآن؟ ومن الذي يحدّد لنا هذه المقولات التحليلية و يثبت لنا جدواها؟
هناك مقولات بقع تفعيلها لقراءة الواقع. وقد أنتجت العلوم الإنسانية والاجتماعية مقولات متعددة الخلفيات وساهمت عبرها في إعطائنا تشخيصا لما يحدث. كانت المقولات التي استعملت في القرن التاسع عشر لفهم الواقع مقولات سياسية. هي مقولات السلطة السياسية والشعب والتفريق بين السلط والأمير والنظم السياسية والديموقراطية. هذه هي المقولات الكبرى لتلك المرحلة، أي المقولات التي تقوم بتشخيص الواقع. وقد أعطت هذه المقولات تطورا نوعيا في قراءة الواقع وفهمه وكان ذلك مرتبطا بالأنظمة السياسية والإدارية التي غيرت وجه العالم آنذاك، نحن أمام شيء جديد اسمه البيروقراطية. ولكن القرن العشرين كان مغايرا، لقد أنتج مقولاته التحليلية وأنتج بالتالي فهمه وتشخيصه المختلف. وكانت المقولات الكبرى آنذاك مقولات اقتصادية اجتماعية. هي الطبقة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية والنقابات والتنمية الاقتصادية واقتصاد السوق والصراع الطبقي. وقد منحت هذه المقولات رؤية لفهم أخر للواقع. هنا لا يمكننا فهم البطالة مثلا خارج منطق فشل النظام الرأسمالي واقتصاد السوق الذي لا تعنيه المسألة الاجتماعية. ولا يمكننا فهم التنمية الاقتصادية خارج عمليات الإنتاج المادي وخارج استثمار الموارد الطبيعية التي يقع تصنيعها. المشكلات الاجتماعية خلاصة أنظمة اقتصادية غير عادلة بما فيه الكفاية.
ولكن المقولات الاقتصادية الاجتماعية في عملية التشخيص وفي عملية قراءة الواقع لم تعد كافية في هذه الألفية. تراجعت هذه المقولات التي اشتغلت قرنا كاملا لتترك الفرصة لمقولات ثقافية جديدة تصدرت مشهد التشخيص والتحليل. نشأت هذه المقولات ذات الأفق الثقافي في سياق صعود لافت للفردانية في اهتمامها المفرط بذاتها وفي البحث المكثف عن مركزية جديدة لم تكن مألوفة سابقا. استعادت مقولات الهوية مكانتها وأصبحت حاضرة في كل مكان سواء تعلق الأمر بالهويات الفردية أو الهويات الجماعية بآفاقها المتعدّدة. مقولات الاعتراف والتقدير وكل ما يرتبط بالاعتباريات. هذه مقولات مساعدة جدا على التشخيص وبدونها لا يمكن أن نقوم بالعملية بشكل منسجم مع التحولات الجديدة. وبهذا لا يمكن أن نشخص البطالة مثلا كمشكل اجتماعي بنفس مقولات القرن الماضي لأن البطالة اليوم لا تُعاش أساسا إلا لكونها شكل من أشكال الإخفاق الشخصي. وهنا تتغير أمور عديدة في التعامل مع الظاهرة، فيصبح الحلّ موكولا إلى الفرد نفسه، عليه أن يبحث عن الخلاص الفردي الذي قد يجده في الهجرة السرية.
نشهد الآن تراجعا كبيرا لمؤسسات التنشئة بكل مجالاتها، وهذا التراجع آت من أن هذه المؤسسات لم تضع في اعتبارها فردانية الأفراد ولم تجعل منهم شركاء في هذه التنشئة وينطبق ذلك على المؤسسات الاستشفائية مثلما ينطبق على الأحزاب السياسية.
قد نستسهل مقولة التشخيص ونمضي في البحث عن الحلول دون إدراك أن عملية التشخيص في ذاتها عمل ذهني و فكري دقيق، لآن التشخيص هو توجيه للبحث عن حلول ضمن دوائر السياقات التي نتحرك ضمنها.
هل أن التشخيص مُتاحٌ ؟
- بقلم محمد جويلي
- 10:23 23/11/2021
- 946 عدد المشاهدات
تحتاج الظواهر إلى تشخيص ويكاد يكون هذا التشخيص معلوما من الجميع وأن الأمر يحتاج إلى فعل، إلى تقديم حلول. لا فائدة في إعادة