أشياء فلسفية في الخوف، في الخيال، في الهلع

اللوياثان (التنين) هو دائما من صنع خيالنا الذي يواصل خوفنا . فإن الناس في المدينة تسوقهم خيالاتهم حتى عندما تنضاف إليها الحسابات.

وأول الخوف خيال: فإن الخوف توقع، وتهيب، يخيلان في شرّ ليس بعد، أنه سيقع. وتمثل بعض مقاطع كتاب الخطابة لأرسطو مدخلا جيدا لفهم علاقة الخوف بالخيال. ولكنّ الأهم هو توظيفه السياسي لهذه العلاقة من خلال مفهوم التمثل. إن ترويع الناس في المدينة يتم عبر تصوير «المخيف» على أنه وشيك، قادم، داهم. ليس ذلك فقط. بل يعمد الخوف بضرب من استقطاب الدلالة إلى استفراغ كل ما يجري، وتخيله موجها إلى النفس، إلى أنفسنا نحن، كأنما لا يوجد في حقل القصود من الموضوعات إلا نحن. ثمة نوع من تضخم الهشاشة، فجأة، تتسع به رقعة الأنا، بل تمطّط تمطيطا، بحيث يصيبها الأذى مهما تناثرت وتطايرت شراراته. يجعلني الخوف مقصود الأذى لأني أتوقعه في كل وقت وفي كلّ مكان. كيف؟ إنّ هذه الآلية التي أجدني بها مقصودَ الشرّ في كل حين ومكان، هي آلية مركبة من عنصرين رئيسيين: الخوف، والتخيل. فإذا ما تراكب العنصران وتم لهما التواؤم وتمفصل كل منهما على الآخر، صارا منتجتين: وأول ما ينتجان هو العلامة، اسما، فصنما، فمقدّسا، فمعبدا، فحدثية من الضوضاء اليومية المضخمة، حيث لا يمكنك أن تسمع إلا صوتهم. يخاف الناس فلانا. يخافونه فيسارعون إلى النطق باسمه. قد يكون اسمه تقريبا له، أو نوعا من الاستحضار كما في ما نعرف من التعزيمات. لا يمكن أن يرتفع الخوف من دون الاسم: الاسم مفتاح. متى ملكته ملكت الشيء الذي من ورائه. ولذلك يثبتون الاسم، تثبيتا لوجهه المخيف، علامة لا تكون مأمونة إلا طالما كانت معروفة. على أنّ في تسمية المخيف نوعا من تخفيف الرهبة، لكأنما الاسم مدخل لترويض هذا المهول الذي يتهددنا في كل حين. الاسم قرابة: لأن الذي نسميه أصبح قريبا، لأنه أصبح معروفا، وذلك أول ما نملأ به فراغ الخوف، ولاتعيّنه، وإبهام معرفتنا بما يمكن أن يصدر عنه. الاسم استحضار، جلب إلى خشبة الحاضر وحلبة الماثل أمامنا لأن الخوف توقع وتهيب مما لم يقع بعد.
قال أرسطو في كتاب الخطابة: «من الأفضل عندما يراد ترويع المخاطبين وجعلهم يشعرون بالخوف، وضعهم في حال من الإحساس به بإخبارهم بأنهم باتوا معرضين للسوء». وعلى العكس من ذلك فإن التلويح بقوة الحاكم على احتواء المخيف، وعلى استبعاد حلوله بالناس هو الذي يصنع الثقة. فالثقة هي تأجيل للتمثل، في معنى استبعاد الوقوع القريب. ما دمنا لسنا بحاجة إلى تمثل المخيف (لأنّ وقوعه ليس وشيكا)، فإن من شأن ذلك أن يصنع الثقة: إذ الثقة، أو الأمان هما عدم الشعور بأن المخيف قريب الوقوع، أي الشعور بدلا من ذلك بأنه قد تم «تعطيل وقوعه» أو تعليقه.
تغزونا المخاوف اليوم: ولكنها مخاوف من نمط غير مسبوق: لقد تعودنا الخوف يقينا من المكروه، وتعذرا لأسباب منعه. ولكن خوفنا اليوم بات يتولد من عدم قدرتنا على التلاؤم مع طبيعة المخيف. المخيف اليوم مخيف افتراضي، لا نستطيع معه التأكد من حقيقة المخيف ولا من حقيقة الضّرر. المخيف ملغز. وشكل إلغازه اليوم هو صيغته الافتراضية: لم نعد نعرف هل نحن في لقائنا اليومي أمام كائنات حقيقية، وبمشاعر حقيقية وحتى هل نحن أمام جوائح حقيقية غير مفتعلة. لقد كان الخوف يقينا من الهلاك، أو ترجحا للضرر، أو تغليبا لفرضية الكارثة نظرا لليقين من المقدمات. لا نملك أمام كل ذلك إلا الرهبة، وتجمد الدّم في العروق. ولكننا اليوم بتنا أمام الافتراضي المعمم، لا نخاف لأننا نتوقع الضرّ، وإنما نخاف لأننا لا نستطيع أن نتوقع. لقد كان الخوف تهيبا من متوقَّع حاطم، ولكنه اليوم قد أضحى هلعا وفزعا لأننا لا ندري فيه لا من أين يأتي المفزع، ولا ما هو، ولا حتى أنّه يكون أصلا. ربما كان المخيف «خيالا» في معنى الفزّاعة التي نصدّ بها الطيور الهاجمة عن التهام المحاصيل. ربما كان المخيف حقا لا يزيد عن كونه لعبة لا نحن نمسك بمفاتيحها، ولا حتى نستطيع الانسحاب منها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115