أشياء فلسفية: قصود النصّ وقصود التّرجمة

أنّنا نترجم، فذلك يعني أيضا أنّنا ننتقل بين الألسنة، انتقالا يعالج المختلف بنية وأسلوبا وسياقا ثقافيا، ولكن من أجل إدراك نوع من المماثلة التي تجعل الذي يقرأ في هذا اللسان يجد مثل الذي يجده

الذي يقرأ في لسان آخر، وإن كان في إدراكه يتوسّل بالمختلف. مثل هذا المسعى يصطدم في كلّ مرّة بأنّ اللسان الذي يؤدي يقصر، إن لم يعجز، عن أداء ما يريده وما يستطيعه اللسان الآخر. فكأنما نحن في الترجمة ننطلق في كل مرة من امتلاء نحن نشهده ونشعر به في لسان ما، لنصل إلى صيغة لا نكون أبدا راضين عنها تمام الرضى. ولا يتعلق الأمر هنا فقط بتجربة «ما لا يترجم»، وإنما كذلك بتجربة الاستحالة شبه التامة للتواصل بين الضمائر.

أترانا نترجم النصوص أم قصود المعاني؟ ونعني بالنّصوص وجهها الذي تكون به مضامين إخبارية «شبه موضوعية» أو «تقريرية» ليس فيها أي شحنة «إفصاحية» نريد بها «إيقاع» أيّ تغيير في محيطنا على حد عبارة جون سورل.. وفي أقصى الحالات فإن ترجمتها لا تزيد عن الإخبار. أما القصود، فتفترض مستويين على الأقل من التلقي لا مفر منهما: مستوى تلقي الخبر البسيط، ومستوى الانتقال من هذا الخبر البسيط إلى التظنّن عليه بأنه ليس منتهى المعنى، وأنه «يخفي» بوجه ما ضربا من «الماوراء». إنّ هذا الماوراء هو ما نعنيه بـ»القصد» الذي يختفي وراء العبارة الموضوعية والذي يتطلب مجهودا أولا من التأويل في مستوى الفهم، أعني في إدارك ما لا تقوله العبارة بالضرورة، ومجهودا ثانيا من إعادة بناء القصد التعبيري أو الإفصاحي، أعني صياغتَه في نفس التعقيد الذي صيغت به العبارة الأصلية، ولا سيما من حيث تركُّبها من صيغة موضوعية «غير ناطقة»، ومن صيغة تأويلية «لا تحصل إلاّ من خلال إحداث تظنّن مواز على تلك العبارة الموضوعية غير الناطقة بأنها تحمل قصدا لا يدرك إلا بتأويل.

إن إلحاحي على تماثل البنية الأصلية (المركبة) لأي نص مع بنيته الترجمية، هي ما يخيل إلي أن مفكرا كالجاحظ كان يقصِده بالحديث ضمن معجم الوزن والميزان في نصه الشهير عن الترجمة في الصفحات الأولى من كتاب الحيوان.
إنّ كل وضع لأولوية ما، أولوية العالِم على المترجم، أو أولوية المعنى على العبارة، أو أولوية اللسان على اللسان، أو أولوية التصور وعلى العبارة، تفضي إلى استحالة الترجمة، لأن هذه لن تكون في هذه الحال إلا كدّا من أجل إعادة تحصيل لهذه الأولوية تعتوره جميع الفسادات.

وعلى العكس من ذلك، فإنّ الانطلاق من عدم الأولوّية، أي من التسليم بأن الفهم لا ينشد الأول وأن الترجمة لا تستطيع تعبير الأول [بمعنيي التعبير]، وأنها ضمن عمل الحِداد كما نبه إلى ذلك ريكور، فلا تستطيع إلا التقريب تقريبا يدرج المترجم كذاتية أخرى، إن ذلك هو الذي يعطي إمكان الترجمة كإعادة كتابة. ما الذي تعنيه إعادة الكتابة ؟ هل هي كتابة ثانية ؟ ربما. ولكنها قد تعني خاصّة أن نسلك إلى الترجمة [أي إلى إعادة الكتابة] من طريق غير كتابية. يقول التراجمة اليوم « déverbalisation « وهم يقصدون ضربا من الوضع الوسيط الذي تصبح فيه الفكرة ويصبح فيه المعنى خارج ضيق العبارة، لأنّه قبل كل شيء خارج العبارة.
فكأنما بات يتعلق الأمر بعبارة سابقة على العبارة، بل بإيماءة [geste] سابقة على العبارة، ولكن في معنى من السبق غير زمني. وكأنما مطلوب الترجمة، وكأنما ما تقصِد الترجمة إلى تأديته ليس «ما قالوا» بقدر ما هو «ما أرادوا» .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115