إلى والدي...
المدرسة قبل أن تكون حيزا للمعرفة هي حالة عاطفية. نذكر مدارسنا بالحنين الذي يجعلها الأكثر إثارة وشوقا. نستعيد عبرها ترتيب أشيائنا العديدة، نكتشف ما كنا عليه وما أصبحنا عليه بعد مغادرتنا لها، لقد أصبحنا من القدامى. من أعتى فضاءات الذاكرة مدارسنا، ننتقي منها ما يناسبنا من بطولات في أغلبها مُتخيلة ونعرضها على الملأ متبوعة بالعبارة السحرية «يا حسرة». نتكلم عن الآخرين أكثر مما نتكلم عن أنفسنا، نتحدث عن رفاق الصبا، عن المعلمين وعن أجمل الفتيات اللواتي لم تكن لنا القدرة على مفاتحتهن حتى من باب التظاهر.
شاءت صدف عجيبة أن ينتقل والدي مدرّسا فيها أواسط ستينات القرن الماضي. مكنني هذا الحدث من دخول المدرسة طفلا يلعب قبل دخولها طفلا يبحث عن المعرفة. كان لي موقع ابن المعلّم الذي يُحظى بالاحترام وبسلطة رمزية تجعل الآخرين يعتقدون مسبقا كوني متفوقا عليهم دراسيا. استثمرت هذه الميزة بأن سمحت لنفسي بدخول كل الأقسام دون إذن ظاهر، كنت رديفا لوالدي وكان الجميع يعاملونني على هذا المقاس. كان مسكننا المدرسي الأنيق، وهو غنيمة استعمارية، يعطيني سلطة إضافية لأن أكون في فضاءات وأزمنة غير متاحة للآخرين من أترابي. ألج للمدرسة متى شئت، تملكتها وصارت جزءا من هويتي. في مساءات السبت والآحاد كانت لي متعة التصرف في الفضاء، كنت أصعد إلى الطابق الأول للمدرسة وانزل منه مستمتعا بتلك المساحة غير المتاحة للآخرين في منازلهم. أرقب تفاصيل القرية من فوق وكانت تلك أولى علاقتي الرمزية بالمدن، علاقتي بالحداثة. كانت مدرستي غنيمة استعمارية في معمارها وفي تشكل فضاءات العيش داخلها.
كوني ابن المعلّم – وهناك من كتب عن ذلك باقتدار كبير- جعل الآخرين يعتقدون أنني الأفضل بينهم. لم يدركوا أن هذه الصفة تحمل معاناة كبيرة. أولى هذه المعاناة هي أن تفوقك الدراسي إذا حصل موكول بدرجة ما إلى محاباة مدرسية لا لُبس فيها، هذا ما يذهب في ظن الكثيرين. وثاني هذه المعاناة هي أن تحمل صورة الأب على عاتقك، لا مجال للخطأ، ولا مجال للشقاوة الطفولية. عليك أن تستنبط الحيل وتتدرب عليها لتعطي الصورة التي ينتظرها منك الجميع. تحمل صورتك وصورة والدك في الآن نفسه. وحصل أن مرّت بي أمنيات الفقر حتى أتلذذ حليب المدرسة الذي يقدّم في المساء للمعوزين من التلاميذ، عشت ذلك كحالة حرمان لا مثيل لها وأنا أرقب المشهد.
كانت مدرستنا ككل مدارس ذلك الزمن تقيم احتفالات آخر السنة، مسرحيات وأناشيد وساحر ننتظره بشغف كبير، كان القليل من التلاميذ يحظرون التدريبات آخر الدوام، وكانوا منتقين بعناية فائقة، وكنا على معرفة مسبقة بكل الحيثيات. ولكن ليس بمقدورنا كشف أسرار ما حدث للآخرين الممنوعين من الحضور وهي كثيرة، وكنت مستمتعا بفعل الإخفاء. ندافع عنه باستماته لا مثيل لها ولم نسمح لأنفسنا بإفشاء هذه الأسرار إلا في عناوينها الكبرى متى كان السياق مُلحّا وإلى آخر لحظة. وسادت القناعة بين الحاضرين للتدريبات أن نجاح الحفلة التنكرية يمرّ ضرورة بصمتنا. لم يكن الأمر هيّنا علينا، ولكننا أخذناه كالتزام أخلاقي. كان لزوم تشكيل ركح الاحتفال الأخير مكوّنا من أشياء نأتي بها من بيتنا القريب، من عالم حميمي مثير، وكان الأمر متكررا لسنوات. كنت أنظر لكل هذا وفي ذهني العلاقة الشائكة بين ما هو واقعي وما هو مُمسرح، بين الواجهة وما خلف الواجهة، وفيما كان الحاضرون مستمتعين بالمشهد العام الماثل أمامهم كنت خلافا لهم مستمتعا بأسراره العجيبة واللذيذة.
مررت بمدرستي ابحث عن طفولتي فيها، لم أكن وحدي، كانت معي ذاكرتي، إنها تريد استرجاع ما ضاع منها. بحثت معي في التفاصيل بشغف كبير، وجدنا بدايات تمرين الكتابة في كراس التناوب وكان حرف «الشين» هو الاختبار، لم تستطع ذاكرتي كتمان عاطفتها، أحسّت وهي تلتقط المشهد أنها شاهدٌ وشهيدٌ...