إن الإفراط في إظهار غلبة الدولة وفي تغولها أو حتى تمنّي أن تعود الدولة لسالف استبدادها ما هو إلا مزيد إضعافها وجعلها على هامش التحولات المجتمعية التي تفرض نفسها على الجميع. وعلى العموم ليس أسهل من أن ينشأ نظام استبدادي ويتغلغل في أذهان الناس ويصبح أحد أهمّ مكونات ثقافتهم السائدة معتمدا على إرث تاريخي طويل. لقد تساءل الأنتروبولوجي المغربي « عبد الله حمودي» كيف يمكن أن نُفسر أن تحكم مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج بنيات سياسية تسلُطيّة؟
هذه البنية التسلطية هي التي تمنع الجسم الاجتماعي من أن يعبّر عن ذاته وأن يكشف عن قدراته في التعامل مع مختلف الأزمات. البنية التسلطية للأنظمة هي التي تنوب عن المجتمع في كل شيئ. فهي التي تقوم بالتحكيم وباختيار عناصر هذا التحكيم وهي التي تحتكر لنفسها وحسب مصالحها توزيع الموارد الرمزية و المادية من أجل صناعة التوازن الذي تبحث عنه دائما لدرء مخلّفات الديناميكية التي تعيشها المجتمعات و التي تتضارب في كثير من الأحيان مع ما تراه هذه البنى التسلطية التي هي على العموم محافظة و لا تقبل بالمساهمة في أي تحوّل إلا بشروط تفرضها على المنافسين. يحدث هذا مثلا في مجالات حقوق الانسان، فعندما تكون هناك حاجة مجتمعية لمزيد تثبيت هذه الحقوق وتتحرك منظمات المجتمع المدني من أجل ذلك، تقبل الأنظمة التسلطية الانخراط في هذا المشروع وتتولاه وتشرف عليه إلى أن تنجح في تمييعه.
عادة ما تستعمل الأنظمة التسلطية أذرعا لتثبيت وجودها والحزب، والإدارة والأجهزة الأمنية. وتطلب مع ذلك من مواطنيها إبداء الولاء اللازم حتى تكتمل شرعيتها. قد يطول هذا الرصيد لسنوات وعقود وقد تنجح هذه الأنظمة في تحقيق التوازنات التي تريدها وتسعى إليها. ولكنها غير قادرة بالمرة على إحداث كل التوازنات لأن التوازنات حالة ديناميكية، متحركة و متطورة حسب السياقات تلتي بدورها تتجدّد. التوزان بين الجهات كان نقطة الضعف الكبيرة التي عرفتها تونس منذ الاستقلال إلى الآن. ولكن الفارق أنه قبل 2011 لا يمكن التمعن في ذلك ولا يمكن الإشارة إلى ذلك بكل حرية، ولهذا وقع التعامل مع أحداث الحوض المنجمي في 2008 على أنه تقريبا حدث يقع خارج التغطية بصرامة أمنية غير معهودة. أما الآن فإنه من الممكن للحوض المنجمي ولغيره أن يُبدي غضبه من انسداد الأفق أمامه ولا يجد الدولة التسلطية له بالمرصاد رغم وجود تجاوزات عديدة.
المشكل أن الأنظمة الاستبدادية عموما لا تترك إرثا جيدا في التعامل مع الأحداث الكبيرة دون الحلّ الأمني، الشيء الذي جعلنا غير قادرين مع هذا الإرث أن نبدع أشكالا جديدة من التعامل حتى بعد عشر سنوات من غياب نظام ما قبل 2011. ولهذا فإن الديموقراطية والانتقال الديموقراطي أصعب. الانتقال الديموقراطي أصعب لأنه يتيح بسهولة للجميع إبداء الرأي ويتيح للجميع الاحتجاج وربما المبالغة فيه. الانتقال الديموقراطي أصعب لأنه ينبني على احترام الرأي المخالف وثقافتنا لم تزل تئنّ تحت سطوة الرأي الأوحد. في مراحل الانتقال الديموقراطي هناك حالة صحية بموجبها يعبّر المجتمع ويكشف عن أمراضه وعن إخلالاته. فنجد أنفسنا أمام إشكاليات عويصة غير معهودة، فكيف يمكن التعامل مثلا مع وضعيات العلاقة الشائكة بين المركزي والمحلي؟ كيف يمكن للمركزي أن يتنازل عن صلوحياته وكيف للمحلي في غياب التجربة أن يتعامل مع وضعيات شائكة مثل التي تحدث غالبا؟
يضعنا الانتقال الديموقراطي أمام أسئلة أخرى أكثر تعقيدا وهي قضايا العدالة الاجتماعية والجيل الجديد من الفاعلين الاقتصاديين كما يضعنا أمام منوال تنموي جديد بمعالم جديدة. ويضعنا أيضا أمام كيفية تكريس الثقافة الديموقراطية في كل مؤسسات المجتمع والدولة وهي المهمة الصعبة. كما يضعنا أمام عمل شاق وهو إزالة ما أمكن من بنيات التسلط والاستبداد بما في ذلك تسلط الدولة. ولهذا لا نستغرب عندما نجد وضعية فيها الدولة تتفاوض مع فاعلين جدد لم يكونوا في السابق على خريطة المفاوضات. ولا معنى لمفهوم هيبة الدولة إذا كان مضمونه كما كان عليه في السابق، تكمن هيبة الدولة الآن في قدرتها على إنجاح الخروج من المآزق التي تعترضها وعلى أن تكون فوق الجميع في احترامها للقانون.
الانتقال الديموقراطي أصعب على الدولة وعلى المواطنين وعلى المؤسسات السياسية من نظام استبدادي، إذ من السهل إرساء الاستبداد، ولكن من العسير إرساء الديموقراطية ولهذا لا تزال ذهنياتنا تشتغل بأفكار وبأفعال تسلطية. الانتقال الديموقراطي أمام اختبار متواصل وعليه أن يُكابد من أجل أن يترسّخ أكثر في الوقت الذي يعلم فيه أن الاختبار الأصعب هو التعامل الديناميكي مع الإرث الاستبدادي في الممارسة وفي الذهنية.