قهوة الأحد: المشروع الإبداعي وخصوصية التجربة التونسية: (الجزء الأول)

كانت ثورات الربيع العربي ونجاح التجربة التونسية في تفادي العنف الذي عرفته عديد التجارب الأخرى مثل سوريا واليمن وليبيا فرصة للحديث والنقاش

حول خصوصية التجربة السياسية التونسية وانفرادها عن غيرها من التجارب في المحيط العربي والإسلامي.
وليست عملية التفكير في هذه الخصوصية وتميّز تجربتنا التاريخية وليدة هذه اللحظة «الثورية» بل أنها شكلت هاجسا متواصلا في الدراسات التي اهتمت بالمسار التاريخي السياسي التونسي منذ انطلاق الإصلاحات الكبرى في النصف الثاني للقرن التاسع عشر والتي وضعت الحداثة السياسية والفكرية كإطار عام وجامع للتجربة السياسية التي ستقودها النخب الوطنية على مدى قرنين من الزمن.
وقد عرف المشروع التونسي العديد من الانتصارات كذلك بعض الهزائم والانكسارات.

ومن ضمن الانتصار يمكن الإشارة إلى صياغة أول دستور في العالم العربي سنة 1861.بروز الحركة الوطنية ونجاحها في قيادة النضال ضد الاستعمار والحصول على الاستقلال.كما يمكن أن نضيف في سجل هذه النجاحات بناء الدولة الوطنية وقدرتها على صياغة مشروع جمعي وعقد اجتماعي وطني .
وفي خانة الهزائم والانكسارات يمكن أن نشير إلى عدم القدرة على مواجهة التدخل الاستعماري في نهاية القرن التاسع عشر .كما يمكن أن نضيف إلى جانب الانكسارات عجز الدولة الوطنية عن الخروج من التسلط ومشروع الدولة القوية والمستبدة في بعض الأحيان وعدم قدرتها على فتح اللحظة الديمقراطية إلى حدود ثورة 2014.

وقد اهتم الباحثون والمؤرخون بهذه الخصوصية وهذا التفرد في التجربة السياسية في بلادنا وحاولوا الوقوف على أسبابه العميقة والدفينة .وقد أشاروا إلى الدور الكبير الذي لعبته النخب الفكرية والسياسية في صياغة المشروع السياسي في بلادنا.فقد ظهرت منذ نهاية القرن التاسع نخبة حداثية على رأسها احمد ابن أبي الضياف والتي نجحت في أخذ زمام المبادرة من النخب التقليدية ووضع بلادنا على طريق الإصلاحات والحداثة الفكرية والسياسية .وتواصلت هيمنة هذه النخب على مدى القرن العشرين في الحركة الوطنية ثم على مستوى الدولة الوطنية أعطت هذه النخب للتجربة السياسية التونسية خصوصيتها وبريقها الخاص .

أما العنصر الثاني والذي لعب دورا مهما في هذا التفرد التونسي فيهم حركة المجتمع المدني وديناميكيتها وقوتها .فقد عرفت بلادنا بروز الجمعيات المدنية والأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية منذ نهاية القرن التاسع عشر .وقد ساهمت هذه المنظمات لأكثر من قرن من الزمن في تأثيث المشهد السياسي العام لتجعل من الحوار السياسي المدني الأداة الأساسية للعمل السياسي في بلادنا .

وقد أضاف المؤرخون عنصرا ثالثا لفهم خصوصية تجربتنا التاريخية وتفردها وهو الطابع السوسيولوجي والتطور الكبير الذي عرفته المدن مقارنة بالأرياف .
وقد ساهم هذا التطور في بروز تقليد العمل السياسي المدني والسلمي وتطور إلى الأشكال العنيفة والمواجهات العسكرية .

وقد ساهمت هذه العناصر التاريخية والفكرية والسوسيولوجية في بروز تقاليد وتجربة سياسية وفي بناء تجربة خصوصية ومشروع سياسي متفرد في بلادنا مقارنة بعديد البلدان العربية والإسلامية الأخرى .
وتكمن خصوصية هذه التجربة في جانبين مهمين .

الجانب الأول يهم انفتاح التجربة السياسية التونسية وانخراطها في الأفق التاريخي الذي فتحته الحداثة الفكرية والسياسية .
أما الجانب الثاني والهام في هذه التجربة فهو ارتكازها على الحوار السلمي والمدني .

وقد هيمن هذا المشروع على التجربة التاريخية التونسية على مدى أكثر من قرن .وهذه الهيمنة والخصوصية تفسر فشل كافة التجارب و التراجع عن هذا المشروع ومحاولات الثورة المضادة التي قامت بها بعض أطياف الإسلام السياسي .كما تفسر كذلك عدم لجوء القوى السياسية إلى العنف والانقلابات العسكرية وغيرها من محاولات التغيير السياسي العنيف .
إلا أن كل هذه القراءات والتفسير وخصوصية التجربة السياسية التونسية لم تعر ولم تعط أي أهمية لمساهمة المبدعين والفنانين في بناء هذه الخصوصية وهذا التفرد.ورغم المساهمة الهامة والكبيرة لأجيال عديدة من المبدعين فقد ظل هذا الدور مغمورا وغير معروف .
وفي رأيي فإن الإبداع والمبدعين في كل المجالات لعبوا دورا مهما في صياغة التجربة التاريخية لبلادنا.وكان المشروع الإبداعي رافدا مهما في صياغة وبناء مشروعنا السياسي.ويمكن أن نقف على هذه المساهمة في أربع مراحل تاريخية مهمة وهي مرحلة ظهور الحركة الوطنية في ثلاثينات القرن الماضي ،ومرحلة بناء الدولة الوطنية ثم مرحلة الثورة على الدولة الوطنية في نهاية ستينات القرن الماضي مع ثورات الشباب ومرحلة ثورة الربيع العربي .

• جماعة تحت السور،الحركة الوطنية وإرهاصات الحداثة الفنية
هيمن التقليد والتبعية اضافة إلى مشاهد إبداعية أخرى على الساحة الفنية في بلادنا .إلا أن ثلاثينات القرن الماضي ستكون نقطة انطلاق نمط فني تونسي له رونقه الخاص وجماليته.وستشهد الحركة الفنية حركية كبيرة منذ تلك الفترة لتنتج الإرهاصات الأولى لحداثة أدبية وفنية تونسية .
وكانت جماعة تحت السور النواة الصلبة لهذه الحركية بما ضمته من روائيين وشعراء وصحفيين وملحنين ومطربين سيكون لهم دور أساسي في نحت اللبنات الأولى للمشروع الإبداعي التونسي .وستكون روايات علي الدوعاجي «سهرت منه الليالي» و»جولة في حانات البحر الأبيض المتوسط» التعبيرة الأهم عن خصوصية هذا المشروع الإبداعي.وإلى جانب الرواية عرفت الساحة الفنية والغنائية ظهور الرشيدية التي أخذت تحافظ على المخزون الغنائي التونسي وتطوره .كما ظهرت عديد الفرق المسرحية والجرائد والمجلات .

كما عرفت الفنون التشكيلة نفس الديناميكية والحركية مع ظهور أول صالون فني سنوي لعرض الرسامين التونسيين .كما ظهرت أكاديمية قرطاج للفنون الجميلة ثم معهد الفنون الجميلة في بداية ثلاثينات القرن الماضي .
ولئن كان التوجه الكلاسيكي الشرقي (orientalisme classique) هو المهيمن على الساحة التشكيلية في تلك الفترة إلا إن هذه الحركية كانت نقطة انطلاق لثورة فنية وظهور مدرسة فنية تونسية في نهاية الأربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي .

وقد عرفت الساحة الإبداعية في بلادنا حركية وديناميكية كبيرتين في بداية ثلاثينات القرن الماضي كانتا نقطة انطلاق لمشروع وطني ولحداثة أدبية وفنية كانت أحد روافد المشروع السياسي الوطني .ورغم تعدد التعبيرات الفنية والإبداعية يمكن تحديد ثلاث خصائص أساسية للمشروع الإبداعي التونسي .
الخاصية الأولى تهم نجاحه في بناء سردية فنية بمميزات محلية وتخوص في أعماق الوجدان الشعبي والموروث الحضاري التونسي.

الخاصية الثانية لهذا المشروع تهم المضامين التي تطرق إليها والتي تدخل في خانة الممنوعات والمسكوت عنه في الثقافة العربية والإسلامية كالمرأة والجنس والخمر .
أما الخاصية الثانية فتهم اللغة والانتماء للغة العربية وفي نفس الوقت الانفتاح على الواقع واستيعاب لهجاته وأصواته المتعددة لاستعمال الدارجة.وقد ساهمت هذه الكتابات في تطوير اللهجة الدارجة وإدخال الكثير من الحساسية والجمالية فيها.
لقد نجح المشروع الإبداعي من خلال هذه الخصائص في الولوج إلى قلوب الناس ودغدغة أحاسيسهم ومشاعرهم ليصبح احد مكونات الشخصية التونسية .
الى جانب تأثيره الكبير في المخيال الجمعي ربط المشروع الإبداعي علاقات كبيرة بين المفكرين والسياسيين وقادة الحركة الوطنية ليصبح احد الروافد الأساسية للتجربة السياسية في بلادنا .وستدعم هذه العلاقة الحميدة بين المشروع الإبداعي والمشروع السياسي اثر الاستقلال حيث ستعمل الدولة الوطنية على بناء البنية التحتية الثقافية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115