الأصدقاء السودانيين في سنوات الدراسة في فرنسا ثم ارتبطت كذلك بعدد كبير من الأصدقاء السودانيين المتواجدين بكثرة في المؤسسات الدولية ونتبادل إلى الآن الرسائل والأخبار ولعل ما شد انتباهي مع الإخوة السودانيين إلى جانب طيبتهم ودماثة أخلاقهم هو مستواهم الفكري واطلاعهم على كل الإنتاجات الأدبية والفكرية. فلم ألتق سودانيا إلا وجدته قد قرأ آخر الإصدارات الأدبية العربية ولعل الطرفة التي أذكرها وهي في إحدى الزيارات وضمن إحدى مؤسسات الأمم المتحدة التي استضافتني التقيت سائقا شابا وقد تجاذبنا أطراف الحديث ولما طلبت منه زيارة بعض مكتبات المدينة وعرف اهتماماتي الأدبية اطلعني على قراءاته واكتشفت أنه قرأ كل كتابات أديبنا الكبير محمود المسعدي وحدثني ساعات طوالا عن «السد» و»حدّث أبو هريرة قال» وإلى جانب اهتمام عامة الناس في السودان بالأدب فلهذا البلد حركة أدبية نشيطة لم تفلح سنوات الجمر التي مر بها في إطفاء بريقها. وقد ذاع صيت الأدباء السودانيين الأوائل كالطبيب صالح وأمير تاج السر على مستوى عالمي ولم ينضب مخزون الإبداع في السودان عند هؤلاء بل أنتج جيلا جديدا من الأدباء والكتاب الشبان أذكر منهم حمّور زيادة الذي أصدر عديد الروايات أذكر منها «سيرة أم درمانية»، «الكونج»، «النوم عند قدمي الجبل». وقد قرأت روايته الأخيرة «شوق الدراويش» والتي نافست رواية «الطلياني» للصديق شكري المبخوت للحصول على جائزة البوكر 2015 والتي رجعت لنا.
الحقيقة لم أجد أشياء جديدة وهامة تذكر في تجوالي في المكتبات في الخرطوم عدا قصص وكتب الأدباء الكبار الطيب صالح وأمير تاج والتي كنت اشتريتها في مناسبات سابقة. وقد فسّر لي أحد الأصدقاء أن هذا الشح ناتج عن أزمة قطاع النشر في السودان حيث أصبح أغلب الأدباء السودانيين ينشرون كتبهم في القاهرة وفي دور النشر المصرية.
ولكني ظفرت من هذه الزيارة بكتاب صغير كنت التهمته في جرعة واحدة عند صدوره لأول مرة سنة 1992 عن دار الطليعة في بيروت وبقي هذا الكتاب من أقرب الكتب إلى قلبي لما فيه من حساسية وعمق ونبل المشاعر الإنسانية لكني فقدت هذا الكتاب في تجوالي وسفري بين الكثير من البلدان. اشتريت الكتاب الذي وصل إلى طبعته السابعة وبدأت في قراءته عند عودتي إلى النزل ولم أفك عليه إلا عند وصولي إلى آخر صفحة.
هذا الكتاب يجمع رسائل القائد الفلسطيني غسّان كنفاني إلى الأديبة والكاتبة غادة السمّان وهي رسائل عشق وتيه وانتظار وألم خطّها غسّان كنفاني بكل نبل المشاعر الإنسانية التي فجّرتها في نفسه وقلبه هذه الأديبة الجميلة والثائرة على كل المعايير الاجتماعية التقليدية. وقد أثار نشر هذا الكتاب والرسائل من قبل غادة السمّان سنوات بعد اغتيال غسّان من قبل المخابرات الإسرائيلية معركة أدبية وسياسية وفكرية أخرجت العالم العربي في تلك الأيام من سباته. فبين من اعتبر أن نشر هذه الرسائل هو محاولة لتشويه مناضل ثوري أعطى حياته للقضية الفلسطينية وعاب وبل سخط على نشر هذه الرسائل من قبل غادة السمان والذين اعتبروا هذا النشر هاما باعتبار أن هذه الرسائل هي أثر أدبي هام وجب نشره للاطلاع عليه ولن تزيد هذه الرسائل غسان إلا احتراما عند الناس باعتبارها تشير إلى أن هذا القائد «الثوري الصلب» كان قبل كل شيء رجلا حساسا وتختلج فيه الكثير من العواطف الجياشة والإنسانية والحب كان الجدل حادا من خلال الصحف والملاحق الأدبية وحتى السياسية إذن عشنا أشهرا من الحوار الحاد بين المنتصرين لهذا النشر والمناهضين والرافضين له.
وهذا الجدل مرده الأهمية التي يحظى بها غسان وغادة ومكانتهما السياسية والفكرية فغسان هو مثال المثقف الثوري ولد في عكّا وعاش في المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان بعد النكبة وكان عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتي كان يتحمل أمانتها العامة في تلك الأيام حكيم الثورة الفلسطينية د. جورج حبش وكانت الجبهتان الشعبية والديمقراطية وأمينها العام «أبو النوف» أو نائف حواتمة محط اهتمام الشباب العربي الثائر في نهاية الستينات وبداية السبعينات باعتبار انحيازهما للكفاح المسلح وقطيعتهما مع الأنظمة الوطنية التي عجزت عن تحقيق أهداف الحرية والوحدة. وكان لهذين التنظيمين تأثير كبير على الشباب حتى أن الكثير من الشباب العربي انخرط في إحداهما وخاض تجارب العمل المسلح في مخيماتهما في لبنان.
وإلى جانب كونه أحد قادة الشعبية فقد كان لغسان مكانة خاصة في قلوب المناضلين الشباب باعتباره مفكرا واديبا فقد كان يشتغل بالصحافة ويكتب المقالات السياسية والتحاليل وكذلك البطاقات الحميمية والقصائد المليئة بالحب والوجد والتيه في مجلة الحرية أو مقاله الأسبوعي في جريدة المحور أو جريدة الأنوار ثم مجلة الهدف التي أسسها وأصبحت إلى اليوم ناطقة باسم الجبهة الشعبية وقد كتب غسان الدراسة الأدبية وأصبحت مؤلفاته مراجع هامة كفن «الأدب الصهيوني»، «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 - 1968». ولكن قيمة غسان الأدبية ستبرز بصفة خاصة في رواياته وقصصه ومسرحياته وأذكر منها «رجال في الشمس»، «أرض البرتقال الحزين» و»القنديل الصغير» و»عالم ليس لنا» وغيرهم.
وأذكر تجربة شخصية عندما قررت مع بعض الأصدقاء في حركة السينمائيين الهواة في نهاية السبعينات تحويل رواية «عائد إلى حيفا» إلى فيلم سينمائي وقد قمنا بعملية جمع تبرعات في الجامعة ومع زملائنا الطلاب لتمويل هذا المشروع وقد طلبنا في تلك الأيام من الصديق نبراس شمام وفرقة البحث الموسيقي بقابس والصديق الشاعر آدم فتحي كتابة الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم فكانت رائعة «وصية الشهيد» والتي تقول في بدايتها:
«سآخذ وجهي وأرحل..
إني أزفت ساعتي..
ثائرا كالرياح...
وملتهبا كالحقول التي أشعلتها الجراح..
سآخذ وجهي وأرحل...»
إذن كان غسان كنفاني نجم تلك الأيام فقد تمكن من التغلب على مرض السكري الذي بدأ ينهش جسمه الصغير منذ صباه وصار المناضل الثوري الصلب والمستميت في الدفاع عن القضية الفلسطينية وكذلك المفكر والأديب والشاعر والذي تفيض قصائده ورواياته حساسية وإبداعا وحبا وإنسانية إلى أن جدت نهايته المؤلمة في سن الست والثلاثين سنة إثر اغتياله من قبل المخابرات الإسرائيلية في بيروت في 8 جويلية 1972.
أما غادة السمان فهي سليلة البرجوازية الشامية وابنة الوزير أحمد السمان وهي كذلك الثائرة على تقاليد المجتمع السوري البالية التي أرادت الثورة على المجتمعات العربية وعلى الأنظمة الحاكمة فيها وحملت لواء الثورة النسوية والأدبية وقد أصدرت غادة السمان أولى رواياتها «عيناك قدري» سنة 1962. ثم انتقلت إلى بيروت لتهرب من المجتمع الدمشقي المحافظ إلى بيروت ولتعيش تمردها على التقاليد والمؤسسات البالية وككل شباب فترة الستينات فقد شكلت هزيمة الأنظمة الوطنية في حرب 1967 صدمة كبيرة لغادة وكتبت إثرها مقالها المعروف «أحمل عاري إلى لندن» قبل أن تسافر لتستقر بضعة أشهر في مدينة الضباب لتخفي وتداري حزنها هناك.
وسيؤدي لقاء هذين النجمين الثائرين على العادات والتقاليد والقلبين المفعمين حبا وحساسية وعواطف جياشة والأديبين المسكونين بالكتابة وألم الإبداع إلى حب جارف وستشهد رسائل غسان إلى غادة وكتاباتها عنه بقوة الإحساس الذي جمع هذين الابنين الرهيبين لثورات الشباب العربي في الستينات ليهدونا قصة حب جنونية ستجد مكانها إلى جانب أهم قصص الحب في التراث العربي كالتي جمعت قيس وليلى وعروة وعفراء وعبد الله وهند وقيس ولبنى وغيرهم كثير في ميتولوجيا الحب المتبع بالألم والحسرة في تاريخنا.
وقد قدمت غادة لجملة هذه الرسائل لتقول كل وجدها وهيامها وشغفها الذي بلغ حد الوله بغسان. تقول غادة والتي تتمكن من إيجاد ردودها إلى غسان على رسائله لنشرهما مع بعض «نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني.. لم يكن فيه من الخارج ما يشبه صورة البطل التقليدية: قامة فارعة.. صوت جهوري زجاجي لا مبالاة بالنساء (إلى آخر عدة النضال) لأنه كان ببساطة بطلا حقيقيا.. والأبطال الحقيقيون يشبهون الرجال العلايين رقة وحزنا لا نجوم السينما الهوليودية الملحمية.. غير العادي في غسان كان تلك الروح المتحدية.. النار الداخلية المشتملة المصرة على مقاومة كل شيء وانتزاع الحياة من بين منقار رخّ القدر.. نار من شجاعة تتحدى كل شيء حتى الموت...».
هكذا في بعض الكلمات وبكثير من الشاعرية تنحت غادة السمان صورة البطل والمناضل الثوري والذي تقول فيه «التصق زمنا بعيني كدمعة نقية وانتصب فوق أفقي كقوس قزح».
وبالرغم من سنوات الغياب والبعد فقد بقيت غادة السمان على نفس الوفاء لهذا الرجل «والوفاء ليس فقط لعاطفتي الغابرة تقول غادة المتجددة نحوه بل وفاء لرجل مبدع من بلادي اكتمل بالموت لأنه كان أكثر صدقا من أن يسمح له عدوه بالحياة والكتابة والاكتمال بالعطاء».
وعندما نطالع هذه الرسائل تغمرنا المشاعر والأحاسيس والحب الذي جمع هذه العلاقة وتشير هذه الرسائل إلى مختلف المحطات التي سرت بها هذه العلاقة فكانت اللحظة الأولى أو لحظة الإعلان عن هذا الهوس هذه اللحظة التي لا تشبه أي لحظة أخرى بما فيها من تردد وخوف ورهبة. يقول غسان «أعرف أن الكثيرين كتبوا لك وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تعاش وتحس وتنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين...
ورغم ذلك فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاحقته التي يخيّل إليّ الآن أنها كانت شيئا محتوما وستظل كالأقدار التي صنعتها إنني أحبك».
ويزيد غسان في نفس الرسالة في وصف هذه العاطفة الجارفة التي تغمره ليقول «لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كل شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي. ببساطة لأنني أحبك وأحبك كثيرا يا غادة وسيدمر الكثير مني إن أفقدك وأنا أعرف أن غبار الأيام سيترسب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنه سيكون مثل جروح جسدي: تلتهب كلما هبت الريح ويصل هذا الحب مداه وعمقه عندما يقارن غسان بين حبيبته والأرض المسلوبة ليقول لغادة «أنت في جلدي وأحسك مثلما أحس فلسطين: ضياعها كارثة بلا أي بديل وحبي شيء في صلب لحمي ودمي وغيابها دموع تستحيل معها لعبة الاحتيال»
وهذا الحب الجنوني جعل غادة تصير ملهمة غسان الذي يقول لها في إحدى رسائله «إنني أستشعر وأنا أكتبها (إحدى مسرحياته) طعم صوتك وبريق عينيك الإلاهيتين في تلك الليلة الغادرة التي كناها معا وأحس كفيك على جبيني المحروق تستحثني مثلما يستحث المهماز خاصرة الأصيلة».
وهذا الحب وهاته العاطفة لم تخل في الجسد ورائحته والشهوة فيسر لها «أحس نحوك هذه الأيام – أعترف – بشهوة لا مثيل لها إنني أتقد مثل كهف مغلق من الكبريت وأمام عيني تتساقط النساء كأن أعناقهن بترت بحاجبيك كأنك جعلت منهن رزمة من السقط محزومة بجدولتك الغاضبة الطفلة لا ليس ثمة إلا أنت».
وستعرف هذه العلاقة وهذا الحب العاصف تعقيدات الواقع وصعوباتها فيقول غسان لغادة «أنت وأنا نريد أن نظل معا بمقدار ما يضعنا ذلك في اختصام دموي مع العالم إنها معادلة رهيبة ورغم ذلك فأنا أعرف بأنني لست أنا الجبان ولكنني أعرف بأن شجاعتي هي هزيمتي».
وهذا الحب الجارف سيشهد بعضا من الجفاء الذي سيحد من بريقه وتوهجه ولا يحتمل غسان هذا الصد فيستجدي غادة ويقول لها «لماذا أنت معي هكذا؟ إنني أفكر بك ليل ونهار أحيانا أقول أنني سأخلصك مني ويكون قراري مثل قرار الذي يريد أن يقذف نفسه في الهواء» وبالرغم من هذا الصد والغياب فإن غسان يمني نفسه بالصبر والانتظار ليكتب للحبيبة «إنك الخصب أيتها الجميلة الشقية.. وليس ثمة إلا أن أنتظرك في غيابك وفي حضورك. في الشمس وفي المطر، تحت تطاير الكلمات من شفاهنا وبين التصاقهما. وثمة حقول من طحلب غير مرئي اسمه الانتظار تنمو على راحة يدينا حين تمطر فوقها المصافحة»
وطول هذا الانتظار والهجر يولد حالة من اليأس عند غسان ليستجدي غادة «متى سترجعين؟ متى ستكتبين لي حقا؟ متى ستشعرين أنني أستحقك؟ إنني انتظرت وأنتظر وأظل أقول لك خذيني تحت عينيك».
وعندما تنسحب الحبيبة أو تغيب يقول لها العاشق الولهان «وها آنذا متروك هنا كشيء على رصيف انتظار طويل يخفق في بدني توق لأراك وندم لأنني تركتك تذهبين أشرع كفي اللتين لم تعرفا منذ تركت غير الضمإ وأقول تعالي..».
وبالرغم من هذا الصد والهجر فإن العاشق يرفض النسيان ويسر لهذه العشيقة الشقية «إن أسعدنا هو أبرعنا في التزوير أكثرنا قدرة على الغوص في بحر الأقنعة ننسى؟ ذلك مستحيل وأنا أيضا لا أريد أن أنسى ليس بوسعي أن أطمر الزهرة الوحيدة في عمري هكذا لمجرد أنك ذهبت وان أملي في أن ألقاك هو مثل أملي في أن ألقى طفولتي».
ويرفض العاشق هذا النسيان لأن الأمل يبقى في لقاء الحبيب من جديد فيقول «بلى سأراك مرة أخرى ذات يوم ترانا يومذاك سنكسر من حول جلودنا يراقات النسيان التي سنبنيها فوق اللحظات النادرة في حياتنا كي لا نظل صرعى الخذلان».
هذه بعض الأسطر والكلمات من رسائل الوله والحب الجارف التي خطها غسان إلى غادة نشرتها غادة احتفاء بغسان الثائر الصلب وفي نفس الوقت الإنسان ذو الأحاسيس المرهفة والوهاجة نشرتها غادرة استجابة لشيء من النرجسية وبعض من الكبرياء بأن يحبها حد العشق والجنون هذا الفارس القادم من العهد الجميل حيث تلتقي النقاوة الثورية بالأحاسيس والوله والوجد ونشرتها غادة كذلك لأنها صارت أثرا أدبيا وفنيا يضاف إلى ما أنتجته قصص العشق والغرام في تراثنا العربي.
هذه الرسائل القليلة بما تحمله من معان وأحاسيس عاصفة تشير أن الإبداع يصل أعلى مستوياته ليصبح أثرا إنسانيا خالدا عندما تلتقي الثورة والرفض والحلم بنبل المشاعر والأحاسيس لترسم صورة الأمل بعالم آخره.
تونس في 21 ماي 2016.