لا تحمل ذاكرة الآخرين

يكفيك من الحياة ذاكرتُك، لا تحمل ذاكرة الآخرين، لا تقترب منها، قد تكون جمرا أو ثلجا أو شيئا بين الرمضاء والنار. شعوب تكتوي بذاكرتها

ولا تستطيع المناص منها. حروب اندلعت وكانت الذاكرة وقودها. إياك والذاكرة إذا لم تكن لك، إنها لعنة الشياطين، تقطع حبل الودّ بين المتعارفين. هي ليست تفاصيل نرتبها ونقتفي أثرها فقط، إنها وخز من الإبر. موجعة الذاكرة لمّا نعمّق النظر فيها، نسلبها حيويتها، علينا النظر لها كقطعة كريستال لا نلمسها ونتركها تلمع إذا لم نحتملها، وهذا يحصل للجميع.
نحتمي بالذاكرة عندما نصنعها، نركّبها ونُعاني من أجلها. ليس من السهل مسكُ الذاكرة أو تأويلها وقراءتها بجهد نحن غير قادرين عليه. لكلّ ذاكرته يعيش معها وبها كما يريد. هل يستنطقها؟ هل يحتفي بها؟ وكيف اخرج من الذاكرة دون أن تصادر مني ذاكرتي؟ مع من تتقاسم ذاكرتك؟ هل تتقاسمها مع الجميع وتجعلها مشاعة، أم تخفيها وتبقيها مع من ألّفتها؟ هل من المأمول تأميمها وعرضها تجربة إنسانية فريدة؟
أسئلة الذاكرة وجودية لأنها ليست كما يتراءى لنا مسألة مرتبطة بالماضي، إنها الماضي والحاضر والمستقبل أيضا. إنها خلاصة تجربة بكل عنفوانها. ذاكرة اليوم الأول، ذاكرة الأحداث اليومية وذاكرة ثرثرة المعتاد. هي اختبار إنساني يرى بها الإنسان نفسه ويكشف بها خبايا عمقه الوجودي. هي أيضا سفر بين المدن وإليها، هي الخيبات والنجاحات، هي الاحتمالات واليقينيات، هي أسر وجراح، هي جسد متوثب، وجسد يبحث عن المعنى. هي بكاء مرّ وهي دموع فرح، هي عناق اللامنتهى. وهي ضحكة آسرة تليق بالمكان.
نقترب من الذاكرة كتابة. نكتب عنها وبها، ندقق التفاصيل ونتخيلها، نتمرّن على مسكها ونحضنها مع من نريد. نستدعي الكلمات ونعطيها الحياة التي تليق بها. الكتابة وحدها تحفظ الذاكرة وتبعدها عن النسيان. وهنا لا يهمّ الزمن والسياق الذي تكتب به ذاكرتك، قد يهمّ الاخرين، ولكن هذا لا يعني إلاّ من صنع الذاكرة بأزمنة تشرين. ذاكرتك ليست لك وحدك، تعطيها من تشاء وتخفيها من تشاء. ولكن في فضحها انتهاك للصفو الاجتماعي وللصفو العاطفي أيضا. والذاكرة فضيحة أو لا تكون.
احمل ذاكرتك معك ولا تلتفت للآخرين، أجعلها ملاذا للعاشقين وارتكب بها ذنوب الدنيا ولا تبحث عن المصير. اقتف بها أثر الأيام والميادين. كيف لك ألا تكتب عن فينيزيا أو فلورنسا مدُن الحبُ والعابرين. قد يحسب لك الله ذاك ذنبا لا يأتيه أعتى المؤمنين. ونحن نكتب عن الذاكرة نجمع التفاصيل، نلقي بعضها إلى النسيان ولهذا توجد دوما ذاكرة للنسيان. الذاكرة فعل انتقائي بالضرورة لأنها بناء اجتماعي متواصل. الذاكرة الجمعية وذاكرة الشعوب تنويعات لا حدود لها، مرتبطة بالسلطة أيما ارتباط، سلطة رمزية دينية اجتماعية وسياسية.
من يكتب الذاكرة فردا كان أو مجموعة بشرية أو حتى دولة فإنه يكتبها من موقع المتحكم في الأحداث والتفاصيل ولهذا ثمة دوما علاقة بين الذاكرة والسلطة. ولكن للأقليات وللمحرومين وللمنهزمين أيضا ذاكرتهم. هي ذاكرة فيها الكثير من خطاب الضحية وهذا منطقي في سياقات معينة. وتأثيرها يبقى في حدود الإبقاء على المجموعة قوية متماسكة، ولكنها لا تستطيع ان تذهب بذاكرتها إلى مسافات أبعد. هناك في الذاكرة علاقات القوة وعلاقات المعنى، وهناك من يجمع بين الإثنين وهناك من يكتفي بعلاقات القوة دون علاقات المعنى.
كل الشعوب تعيش من ذاكرتها تتغذى منها والكثير منها يرتادها بوصلة. وتظهر الأزمات وخاصة أزمات المعنى حين تتقيد هذه الشعوب بذاكرتها على أنها الحقيقة الوحيدة وتجعلها عنوانا لهويتها. حين تتداخل بشكل عميق الهوية مع الذاكرة فهذا يعني البقاء في حالة التكلس دون خلق ديناميكية ضرورية. ليس أشدّ وقعا من أن نكون أسيري ذاكرة. ولهذا من الموجب التعامل معها بحذر مراودتها والتفصّي منها متى كان ذلك متاحا. لا نتعامل معها كصنم، بل كإمكانية وكاحتمال. وهذا مرتهن بمدى قدرتنا على نزع القداسة عنها. ليست الذاكرة سوى أحداث وتصورات وأفعال في شكل فرضية لغوية يلزمها من له القدرة على تشكيلها وإعادة تشكيلها كلما تطلب السياق ذلك.
فيضٌ من ذاكرة، قدرٌ من نسيان...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115