برج بابل: الثقة وحُدودها المتحرّكــــة

لا نطرح على أنفسنا مقولة الثقة إلاّ في اللحظات وفي المواقف التي نشعر أو نتأكد أنها تبدّدت أو في طريقها إلى ذلك، وأن ثمة ضررٌ ما من فقدانها كلّيا

أو فقدان جزء منها، دون هذا تمرّ الأمور بسلام ونواصل حياتنا بشكل اعتيادي، الالتفات إليها مسألة طارئة إذن في سياقات تدعونا لذلك. لا يمكن العيش إذا ما تساءلنا كل لحظة عن ثقتنا في أنفسنا وفي الآخرين، عندما يقع هذا بشكل مكثف فإننا نكون قد فتحنا أمام أنفسنا باب الجحيم. الثقة مقولة حديثة، كانت قبل ذلك ذات شحنة دينية تعني علاقة المؤمن بخالقه و لا تزال، ولكنها في مجتمعاتنا الحالية أصبحت شكلا من أشكال العلاقات الاجتماعية، إنها انتقلت من المستوى الماكرو سوسيولوجي إلى المستوى الميكرو سوسيولوجي. نثق في الناس عندما نقابلهم كونهم لا يعتدون علينا ونعيش بهذا الشعور إلى أن يأتي شيء ما يزعزع هذه الثقة أو يهددّها بأي شكل من الأشكال. نحاول في هذه الحالة إعادة ترتيب أشياء عديدة حتى نستعيدها من جديد، قد تخلف جراحا رمزية، ولكننا يمكن العيش والمواصلة بالرغم من ذلك وإلاّ أصبح من العسير بناء علاقات اجتماعية متواصلة. يمكن أن نواصل العيش مع الآخرين بنصف ثقة أو أقل، ولكن يأتي وقت وينتهي كل شيء.

الثقة محورية وخطرة في نفس الوقت، محورية في حياتنا لأنها تؤسس لما يمكن تسميته بتشكيل العمران البشري وهي خطرة في حياتنا أيضا عندما نفقد الثقة في شخص ما، في وضعية ما، ويهزنا التساؤل حول الإمكانيات المتاحة التي تجعل هذه الثقة مصدرا للألم. في دوائر الثقة هناك مقولات أخرى تعزّزها، الأمان والوفاء، المقرّب، كاتم السرّ، المتعاون، الخلِيّ، المتواطئ، وغيرها من المقولات التي نعبر من خلالها أن ذاك الشخص أهل للثقة وأهل للوفاء ومنها الثقة العمياء. والثقة بناء اجتماعي نصنعه مع من لا نعرف ومع من نعرف في كل مجالات التعايش الممكنة. أثق في أن ذلك الشخص سوف لن يسبب لي الأذى بالرغم من أنه لا تربطني به أية علاقة، فقط يمكن أن يبدّد ثقتي فيه لأنه اعتدى عليّ بدون أي موجب.

تتعقد المسألة عندما تكون الثقة رابطا بين أشخاص يعرفون بعضهم وتجمعهم علاقات ذات معنى. ولهذا يُصبح المُوثّق إجراء إنسانيا لمحاصرة كل إمكانية لفقدان الثقة، في التجارة، في الزواج وفي غيرها من المعاملات البشرية المتنوعة.

أوجد العمران البشري مقولة الثقة لمقاومة اللايقين والسيطرة عليه. لا شيء يربك العلاقات الاجتماعية في كل اشكالها غير فقدان اليقين. في هذه الحالة يكون الفرد مجبرا على إعادة ترتيب يقينه في الأشياء باحثا عن طمأنينة قد تكون وهمية وبالقدر الذي يستطيع به إعادة الترتيب بالقدر الذي يمكنه به التقدم إلى الأمام. هنا تصبح الثقة عملية حسابية لاحتمالات ذاتوية لأنها تضع الأنا والآخر في موضع محاسبة متبادلة ويقع قياس هذه المحاسبة بشكل فردي أو ثنائي أو جماعي للاتفاق حول مدى اللايقين الذي أصاب جوهر العلاقة الاجتماعية. قد يوهمك شخص ما أن له ثقة بك، ولكن الأمور غير ذلك. ولهذا ثمة علاقة وطيدة بين الثقة والخطاب وبين الثقة وتقاسيم الوجه عند الكلام. الجسد أيضا مصدر للثقة و لفقدانها عندما لا يستجيب بالقدر الكافي.

منذ عقود قليلة تحولت الثقة من علاقة بين أفراد إلى علاقة الفرد بذاته وظهرت مقولات الثقة بالنفس وتقدير الذات والقدرة على الفعل الذاتي وأصبح الفرد محور الثقة في علاقته بنرجسيته الصاعدة كي يكون قادرا على مواجهة الآخرين وعلى مواجهة التحديات التي تعترضه. التطوير الإيجابي وتطوير القدرات الذاتية، الثقة عند مواجهة الناس، الثقة في الجسد وفي تعبيراته الظاهرة والخفية وهي الأعقد والأكثر وجعا عند فقدانها، يتدخّل الطبّ لترميم ذلك لمن يُريد. الثقة في القدرة على الإقناع وعلى التعامل مع الوضعيات الصعبة والقدرة على إدارة الهواجس الذاتية، تتدخل التنمية البشرية لترميم ذلك لمن يُريد أيضا. هناك قناعة جديدة وهي أن الفرد كي يكون مصدر ثقة للأخرين عليه أن يكون واثقا من نفسه أيضا وبأعلى درجات الثقة. هنا تصبح الثقة أيضا عملية تبادليّة.

الثقة في عالم المال وفي عالم السياسة حاضرة من أجل تبديد حالات اللايقين المربكة. ويُعدُّ بارومتر الثقة في السياسيين وفي الفعل السياسي من المصادر الكبرى التي يقيّم بها المتابعون للشأن العام مواقفهم ويحسمون من خلالها تصوراتهم وقراراتهم. الثقة في هذه الحالة شكل من أشكال التعاقد بين المواطنين ونخبهم السياسية، مثلما يعدّل من خلالها السياسيون سلوكهم السياسي انتظارا لانتخابات قادمة. تمرّ الثقة في الديموقراطية عبر الثقة في الصندوق وفي العملية الانتخابية برمّتها وفي الأحزاب السياسية. تصعد الثقة وتهبط في الفعل السياسي وفق الأقوال والوعود التي تتحول إلى إنجاز فعلي يُرضي الناس ويكون في مستوى انتظاراتهم.
الثقة مقولة ثقافية نُدير بها حياتنا، حدُودُها متحرّكة وهي حاضرة بقوّة عنوانا لمجمل علاقاتنا، ولكن التحوّل الكبير هو أنّ ثقتنا في أنفسنا أولا هي الطريق نحو بنا بناء الثقة مع الآخرين، لم يكن هذا متاحا في السابق.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115