ليو ميسّي ... سوف تحمـــل المدينة معك

مُتوسط القامة أو يكاد، لا أرى عمالقة من حوله، ساقُه اليُسرى مُهينة لكل من يقترب منها، قريب من الأرض يحلّقُ في السماءات.

فتى لاتيني من روزاريو الأرجنتينية منعته هرمونات جسده من النموّ رغم أنه بدأ المشي وربما الكلام في الشهر الثامن أو هكذا تخيلت، أعطته برشلونة باكرا ما يحتاجه من أدوية ورعاية أو لُفافات يضعها في الحذاء كي يصبح اللاعب الأكثر شهرة وإمتاعا في الألفية. الوحيد الذي قدّم لليسار جميلا، يضع قدراته الخارقة لينجح الآخرون، قدمه، أهدافه التي لا تُحصى عددا وتمريراته الحاسمة، عشقته كرة القدم مُغازلا فاحتلّ شاشات العالم، حناجر معلقي المباريات مُتعبة ومُبتهجة بذكر ميسي، من يصيح أكثر. يُخيّلُ لنا أنه يلعب وحيدا ككلّ النجوم الذين لا يعترفون بقواعد اللعب الصارمة، ولكنه لا يتواني عن وضع رفاقه وجها لوجه مع حراس المرمى. إنه يشبه في لعبه اليسار الاجتماعي الأوروبي. ميسي في لعبه هو خلاصة الواقعية السحرية اللاتينية وعقلانية الحداثة الأوروبية. هو بين روايات غابريال غارسيا ماركيز ونظرية في العدالة عند جون راولز.
ميسي ليس مارادونا المارد الأرجنتيني الآخر. مارادونا يلعب بكاريزما من يريد أن يقول لأوروبا أنا الأفضل، أنا الأقوى فلتذهبوا إلى الجحيم، يساري وثوري في لعبه بلا هوادة، غير مكترث، تهمّه جدا جزر المالوين وهو يلعب. حركاته الإحمائية ذات مباراة نهائية أوروبية ساحرة بلا حدود، كان يواجه أوروبا لوحده بساقه اليسرى وبتصريحاته المذهلة. ميسي يلعب مع اعتراف بالجميل أكثر، مقتصد في الكلام، وقحٌ بأدبٍ، لقد أتى إلى برشلونة يافعا، تربّى على ثقافة مدينة متوسطية ساحرة، لم يبق له من أرجنتينيته إلاّ اللعب لمنتحب بلاده وجدّته للأمّ التي تنبأت بعبقريته ودفعت بها إلى الأقصى، يُحبّها ويتذكرها عند كل هدف يُحرزهُ رافعا إصبعه للسماء، علينا نحن عاشقي ميسي تذكرها أيضا، قدراته المذهلة على المراوغة والتسديد نحو المرمى منعت المدربين من أن يفرضوا عليه صرامة التكتيك، لقد ألزموه بالحدّ الأدنى، لم يكن لهم خيارا آخر. يريد مارادونا إقناعنا أنه يلعب من أجل الفقراء والمهمشين في مدينة نابولي المقهورة. ويلعب ميسي من أجل من هم أحسن حالا، من أجل متوسطي مدينة برشلونة التي ينبض قلبها بإيقاع ساقه اليسرى. سيذكر استاد الكامب نو ذي التاريخ الأليق أمجاد ميسي على أنها الأمجاد الأكثر إثارة وذهولا. كنّا هناك..
برشلونة مدينة تبحث عن هويتها المحاصرة، تحتاج دوما إلى إثبات الذات. ترصّد بها المركز المادريلاني سابقا ويترصد بها حاليا، وهي تريد الانعتاق. أتى الفتى اليافع ميسي ومنحها شارة الدول العظمى. كلاسيكو الأرض بين البارسا والريال هو حرب عالمية مرتين في السنة أو أكثر. يلعب ميسي للنادي، ولكنه يلعب للمدينة أيضا لشرفها ولثأرها الرمزي. كلّ مباراة كلاسيكو هي استحضار لما فعله فرانكو بالمدينة، كلّ انتصار في الكلاسيكو هو استقلال كاتلانيا المُتخيّل، الانتصار عند الغريم في البيرنابيو أبهى، كلّ هدف يأتيه ميسي في كلاسيكو الأرض هو مسافة تقترب من إعلان الدولة.
إلى أين انت ذاهب يا ميسّي؟ إلى اللاّمعنى؟
سيغادر ميسي برشلونة دون رغبة منه، سيغادر مدفوعا بسياقات المال وهذا لا يهمّ، ميسي سيذهب إلى ناد آخر وهذا لا يهمّ، تمّ البوح بالخبر للعموم يوم 5 آب وهذا أيضا لا يهمّ، يا للصدفة العجيبة. ولكن الأهمّ ما يبقى في الذاكرة المتّقدة دوما. ميسّي، لقد أعطيت كل ما عندك لبرشلونة، متعة الأهداف جنونها وغرابتها، أهدافك أورغازمية في الظهيرة وما بعد الظهيرة وفي ليالي الشتاء الباردة، أهدافك في الركن الأيسر من المرمى، أهدافك في الركن الأيمن من المرمى، أهدافك من كل المسافات، أهدافك وحائط الصدّ ثابت، أهدافك وحارس المرمى في كامل تركيزه، أهدافك وأنت تكسّر دفاعات التسلل، أهدافك ما بين الساقين، أهدافك في الحلم وأخرى في اليقظة، إتقانك المراوغة على خطوط التماس وهي الأضنى، إنك تدرك الاتجاهات جيدا، إنك تستطيع مداعبة الكرة في المساحة بين الوردة وظلّها.
أنت أسطورة اللامتوقع، أهدافك في أول المباراة وفي آخرها، إنك تسجلها في كل الأوقات والأمكنة، في ملاعب المدن كلها، في باريس، في روما، في اسطمبول، في فلورانس وفينيزيا، في مدينتك أيضا وفي غيرها، لا تقف المدن أمامك، ذاكرتك في المدن. أذهلت الجميع وأدخلت شكا مريرا بهم و لا تزال وأنت في البارسا، بإمكانك ترك الجميع يكتوي باللايقين، يكفي فقط ذكر اسمك على الشفاه، أسعدت محبيك ومريديك وأنت مع البارسا، نشوتك اللامتناهية وأنت برفقة البارسا، هديرُك وأنت في لذة المُنتهى تبكي نازعا تِبانك شوقا لمُحبيك يا فتى البارسا، البارسا هي التي علمتك النوم والصّحو وعلمتك اللهو في الميادين وفي غرف تبديل الملابس، علمتك كل شيء حتى قطف ياسمين مساءات المدينة.
البارسا بين عينيك وأنت تلامس الكرة في ناديك الجديد، البارسا بين شفتيك، ستفقد تركيزك وأنت تتحدث عن ناديك الجديد، ذهنك هناك على ساحل المتوسط، وانت فرحٌ بتسجيلك هدفا لناديك الجديد سوف لن تنسى نشوتك الكبرى وأنت تسجل للبرسا، هي الأبقى. احذر زلة اللسان وأنت تصرّح قبل المباراة أو بعدها، لا تحك لهم عن البرسا، راوغهم قدر الإمكان، لا تذكرهم بها ولو على سبيل المزحة، إنهم يدركون جيدا أن قلبك هناك، لن يغفروا لك ذلك أبدا وإن جاملوك فذاك ربحٌ للوقت أو دفاع عن شرف، وقد يضعون ذلك شرطا في نصّ التعاقد. ستُنهي مسيرتك بعد عامين على الأكثر، لا جديد يُذكر، ولكن هناك قديما يُعاد بعيدا عن الأعين قريبا من الشغف. لن يذكرك الناس إلاّ وأنت في البرسا ومعها، لن تضيف شيئا هناك، أخذت منك البرسا كل شيء لأنك أعطيتها كل شيء، سيكون ناديك الجديد ظلاّ لها، لقد قدِمت في الوقت بدل الضائع مدفوعا بالكسل، لقد ذرفت دموع المغادرة وستذرف دموع عودٍ على بُدء،
سترجع يوما إلى مدينتك علنا وأنت لاعبٌ وسترجع إلى مدينتك سرّا وأنت عاشقٌ. لا يعلم ذلك من لم يجرّب ريمونتادا العاشقين،
ليو ميسّي... المدينة في انتظارك،

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115