برج بابل: الهاربون من الرياضيات

الهاربون من الرياضيات هم الهاربون من الجُندية، هم الهاربون من انتظار الانتظار، هم الهاربون من رائحة دفتر المناداة، هم المغادرون للوطن خلسة

أو في العلن، هم الهاربون من قُراهم ومن المدن، هم الذين يضعون الزُجاج أسفل الطاولة عند سماع الآذان، هم أولئك الذين لا يُلدغون من الفرح مرّتين، وهم الهاربون من ضجر السرير وهاربون من سرير الضجر، هم الذين إذا حدثتهم عن جدول الضرب يقولون لك الحساب عند الله...هم الهاربون من ذاكرة الحنين وذاكرة الجسد، هم الهاربون من امرأة ترتدي جمرا، هم الهاربون من ماض لا يليق بهم إلى حاضر يتوهّمون معرفة تفاصيله، هم الهاربون من تسكع داخل جرح، هم الهاربون إلى طعم التوت في الثغر، هم الهاربون إلى كسل العواطف وكسل ما بينَ بينٍ، هؤلاء جميعا وغيرهم هاربون من الرياضيات ومن فتحات المدرسة.

أعتذر عن الكتابة عن المدرسة وعن الهاربين من الرياضيات، ليس هذا ما تعودت عليه، هناك من هو أقدرُ مني وأبلغُ، لم تكن الرياضيات هوايتي المفضلة، ولكن كانت المدرسة مكاني الأبهى. المدرسة حالة عاطفية، حيرة عاطفية أيضا، لا نتعلم فيها الحساب وقواعد اللغة فحسب، بل نتدرّب فيها على ترويض عواطفنا وأجسادنا، المدرسة تشكيل عاطفي لا يعرف النهايات، نصوغ داخلها كل صنوف المشاعر، الخيبات والنجاحات، ألاعيب السخرية وحكايات الأطفال، تقدير الذات وبخسها، الخوف من الجسد و الخوف عليه، الزهو به والعبور به إلى المعنى، الكذب لإخفاء صدق مشاعر، النسيان واللامبالاة، المغامرة بلا حساب عواقب، القفز عبر الشباك أبلغ معنى من الذهاب عبر الباب، لا مكان للرياضيات هنا، نبض القلب غير نبض معادلاتها.

نبتعد عن قرف إكراهات المدرسة بتخيل عواطف لا وجود لها، نبتكرها في أعين الفتيات وفي أعين الفتيان، نتعلم فيها كيف نحبّ وكيف نتعثر في الحبّ، أولى مفرداته هناك، وكتابة رسائلنا السرية في كنف الوضوح هناك، ومن حسن الحظ أنه مازال يظهر في المدارس حتى و إن كان ذلك في أحيان متفاوتة مستهتر و جريء ليقترف حماقة الخروج عن الصّفو التعليمي ويكتب على حائط المدرسة وبلا هوادة « في اللاّرحيل أحبّك أكثر». يُصيبنا الارتباك أيهما أنبلُ إخبار ناظر المدرسة أو التداول في الأمر وتلذذ وقاحة الكتابة؟ هناك دوما من ينذر نفسه مهمّة إبلاغ المدرسة بقصص الحبّ في بداياتها وعند أفولها، يُسمّى في أعرافنا المُخبر العاطفي للمدرسة الذي يُتقن تجميع قصص الحبّ دون أن يكون مرّة طرفا فيها، إنه يتلذّذ من ضواحيها، فهو كجامع المال لا يشبع، هذا بالذات لم يكن مُتاحا له الهروب من الرياضيات.

نتكلم عن المدرسة بوصفها مصعدا اجتماعيا ولا نتكلم عن المدرسة بوصفها مصعدا عاطفيا، المصعد الاجتماعي معطّب والمصعد العاطفي يترنّح. لا مكان للعاطفة في مقررات المدارس، ليست من ضمن تصنيف الذكاءات، لذا نختم الموسم بأنشودة إليك يا مدرستي. لم تترك الرياضيات مجالا لذلك، لقد احتكرت لوحدها سلطة المعرفة وتركت لنا فقط حيزا لمديح النخل العالي. المعرفة والعاطفة زوجان يتيحان للمدرسة معنى لا نجده إلاّ في أمنياتنا، كثيرا ما يقع الفصل بينهما، من الآثام التي إذا أتيناها في المدرسة عطلنا الكسب المعرفي، في حين أنهما عندما يلتقيان يعطيان للتجربة إحساسا مغايرا.
المصعد العاطفي لا توليه مدارسنا الاعتبار الكافي، التفكير فقط فيما هو مجتمعي وكانت تلك البدايات الأولى للمشروع المدرسي في بلادنا. لم يفرض هذا المصعد حيويته إلا عندما رجع الفرد إلى مكانته حين بدأ يشكل مشروعه كفاعل في أسوار المدرسة و خارجها، و بدأ الفاعل المدرسي يقيّم تجربته علاوة على التحصيل المدرسي من خلال مكتسباته العاطفية و هي المسارات التي نسجها من أجل أن تكون هويته عاطفية أيضا.

لا تستهينوا بالمدرسة وهي مصعد عاطفي، نحن في قلب مجتمع المشاعر...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115