طاعــة الجثــث يوميات تونسية

بقلم: زياد عبد القادر كاتب وشاعر
«في البدء كانت الكلمةُ». (الإنجيل).
في السينما، محمول على افتتاحيّة الفلم أن تكون قويّة ومؤثرة بقدر قوة وتأثير أول آية في الكتاب المقدّس.

فإن لم يكن، فعلى الأقل بقدر قوة وتأثير افتتاحية «النحتُ في الزمن».
لبيان هذه القوة، أنقل من فِلم «العرّاب» The Godfather مباشرةً، كلمةً بكلمةٍ.
زاوية مستقيمة. لقطة قريبة جدا تصوّر وجها على كامل الشاشة. يبدأ صاحبُ الوجه في الكلام موجّها نظره إلى الكاميرا، فنفهم أنه مهاجر إيطاليّ، وأنه يتحدث إلى زعيم إسمه دون كورليون، ملتمسًا منه يد المساعدة.
- الرجل: أنا أؤمن بأميركا، فهي سبب ثروتي. وقد ربّيت ابنتي على الطريقة الأمريكية. لقد أعطيتها الحرية، ولكنني علمتها ألاّ تلحق العار بعائلتها. تعرّفت بشاب غير إيطاليّ. كانا يذهبان إلى السينما. كانت تسهر حتى ساعة متأخرة. لم أعترض. ذهبا في نزهة منذ شهرين بصحبة شاب آخر. أقنعاها بشرب الويسكي، ثم حاولا التحرّش بها. قاومَتهما، فأوسعاها ضربًا كأنها حيوان. عندما رأيتها في المستشفى كان أنفها محطّما، وكان فكّها مهشّمًا، مثبّتا بسِلكٍ. لم تتمكن حتى من البكاء بسبب الألم. لكنني بكيت. لماذا بكيت؟ كانت نور حياتي. فتاة جميلة (موسيقى شجية ترتفع في هذه اللحظة، وحركة الكاميرا تبتعد ليغدو المخطَّط قريبًا من الصدر). والآن فقدتْ جمالها للأبد. (يسعل خافضا بصره إلى الأرض) آسف. (يرفع بصره مرة أخرى إلى الكاميرا). قصدتُ البوليس كأيّ مواطن أمريكيّ صالح. أقتيد الشابان إلى المحكمة. حُكم عليهما بثلاث سنوات، مع وقف التنفيذ، وأطلق سراحهما في اليوم ذاته. وقفتُ في قاعة المحكمة كالمغفل، وهذان الوغدان يبتسمان لي باستهزاء. فقلت لزوجتي، لتتحققَ العدالة يجب أن نقصد دون كورليون.
- دون كورليون (غارقا في ظلام اللقطة، الكاميرا من الخلف تصوّر شطره الأيمن من الرأس إلى الكتف). لماذا البوليس؟ لماذا لم تأت إليّ أولا؟
- الرجل: أطلبْ مني ما تشاء. لكن افعل ما أتوسّل به إليك.
لقطة مقرّبة للدون كورليون وهو يجلس خلف مكتبه. جلوس هادئ ولكن في نفس الوقت ساحق. تبتعد الكاميرا بضع إنشاتٍ. نرى أنه يلاعب قطة في حضنه. يُهمهم بتلك الطريقة التي لا يجيدها غير مارلون بروندو. يضع القطة جانبًا. يدور من حول طاولة المكتب، ويتوجّه إلى الرجل. ينظر في عينيه. يضع يدا على كتفه، ويمدّ يده الأخرى. الرجل الإيطاليّ، كما لو أنه في طقس مناولةٍ، يخفض رأسه إلى الأرض، يمسك يد العرّاب بذلّ واضح ويقبّلها.
- دون كورليون: ذات يوم وقد لا يأتي ذلك اليوم أبدا سأطلب منك معروفا. لكن إلى أن يأتي ذلك اليوم اقبل مني هذه العدالة كهديّة بمناسبة زفاف ابنتي.
- الرجل: شكرا أيها العرّاب.
- دون كورليون: على الرحب والسعة.
30 جانفي 2011. مطار قرطاج الدولي. لقطة بانورامية. أمواج من الناس جاوؤوا من الفجر ليباركوا الدون راشد الغنوشي.
الكاميرا تقترب من الحشد. من العيون يشعّ بريق النقمة. لا نحتاج إلى معرفة أنّ مرضا ما، شيئًا باثولوجيًّا في الهواء. بحماس يفوق حماس أفراد سرايا الحماية الألمانية «الإس إس»، آلافُ الرجال والنساء ينشدون بصوت رجل واحد «طلع البدرُ علينا»، بينما قسماتهم تشي بأنّ ما يُنشدونه فعلا هو: «أقتلهم أيها العرّاب»، «انتقم لنا منهم».
وها هو العرّاب يشقّ طريقه بينهم كأنه موسى وقد ظهر فجأة بعد أن تاه في أرض سيناء. عينان باردتان. وجه أكثر برودًا. يتعجّب من يراه: الشمسُ مشرقة والجوّ صحوٌ. حتى الحشرة التي لا تستمر حياتها أكثر من أربع ساعات تبتهج في مثل هذا الطقس، فما الذي يمنع هذا الرجل من الابتهاج؟ مع كلّ هؤلاء الذين يتدافعون من أجل أن يقبّلوا يده، كيف يعقل أن يحافظ على تجهّمه لولا أنه يحتقرهم ويعرف حاجتهم إلى من يستغلّهم ويذلّهم؟
صيفُ 2013. ساحة باردو. لقطة فضائيّة. طوفان بشريٌّ. اعتصام الرحيل.
أذلاّءَ ومهانين طيلة حكم الترويكا، ملايينُ التونسيين خرجوا ينادون بالانتقام. هتفوا باسم المخلّص، فلم يتأخر في الظهور. هذه المرة، عرّاب حقيقي،ٌّ قضّى ما يزيد عن عقديْن وهو يلهو بخصيتيْه، دار من وراء مكتبه وسار نحو الحشد. على الفور نبدأ في سماع «يحيا الباجي، يحيا الباجي»، ومع الهتاف نبدأ في فهم مغزى عبارة «طاعة الجثث» Kadavergehorsam؟
وقتٌ مستقطع.
باريس. لقطة واسعة. مكتب مؤثث بأسلوب السبعينات. طاولة وكرسيّان من طراز لويس 16، أباجورة متوسطة الحجم، وأريكة يمين الصورة. وسط الكادر شيخان يتصافحان. يبتسمان في وجه الكاميرا وفي عينيهما ترتسم نظرة استهزاء. كلّ من لاذ بهما على أنهما الدون كورليوني، أحسّ في هذه اللحظة بأنه خُدع. بل من المؤكد أنه أحسّ بغصّة كتلك التي أحسّ بها الرجل الإيطاليُّ وهو يقف في قاعة المحكمة كالمغفّل، بينما الوغدان اللذان نكّلا بابنته يبتسمان له بسخرية وهما يغادران بعدم سماع الدعوى.
مـحـكمة !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115