برج بابل: «لا تخش ما ستكتب»

كانت تشير إليه بأن يكتب لها شيئا ما، ثمّ طلبت منه أن يكتب عنها شيئا ما، من المؤكد أن طارئا جعل الطلب يتغير. أردفت له أمنية أن تكون الكتابة عنها تلميحا

لا يتسرّب منه ما يعكّر صفوها الاجتماعي، ثمّ استقرّ رأيها في النهاية على عبارة محمود درويش «لا تخش ما ستكتب». كانت العبارة إيذانا له بأن يُطلق العنان لنرجسيتها الحميمة.

تمرين الكتابة في مثل هذه الحالات الإنسانية صعب، هناك خشية من القراءة المنفعلة، القراءة التي يقودها فعل المؤامرة أو القراءة الموغلة في التأويل إلى الحدّ الذي يصبح الفاصل بين الكلمات فضيحة مكشوفة، هناك في الكتابة ما يفيد بأنها وديعة. تُودع الكتب وتُودع الرسائل وفي الوديعة هناك ما يُحيل على أسرار لا مرافئ لها، ما يشبه الغموض الذي يأبى أن ينكشف، أو أنه ينكشف في حدود. ما هي هذه الحدود؟ من يرتّبها؟ أين تقف وأين تستمرّ؟ هل يتحكّم الكاتب في هذه الحدود أو أنها منفلتة من خياله؟ الكتابة وحدها كفيلة بالإجابة. مع الكتابة نتيقّن أنّ الحدود لا حدود لها.

نكتب دوما من أجل شيء ما، نكتب من أجل اللذة، من أجل الحبّ والدهشة، من أجل الذاكرة والنسيان. نكتب لدرء العذاب ونكتب تلذذا به أيضا، نكتب خوفا ونكتب انتصارا وهزيمة، نكتب للجسد، لرائحته ولشامة فيه، مثلما نكتب عن التبغ وعن العطور وعن المآكل وعن النبيذ ومغامرات السفر. نكتب عن حارات الأهل وعن جادات اللهو، عن طفولتنا وأسرارنا العائلية المتبادلة، عن الضحك الممزوج بالدموع، عن قرية فيها نخل وزيتون ومدرسة، عن المشمش الذي تكره رائحته، عن الرشاقة تحت الضغوطات، وعن فقدان الصواب إلى حدّ الانتشاء، وعن حكايات بسيطة الحبكة موغلة في التفاصيل. نكتب من أجل الحياة، من أجلها أكتبُ..

وحدهم العاشقون لا يتُوبون عن الكتابة، حتى ولو لم تكن كتابة على ورق، هي كتابة على حائط، وشم على جسد، أو كلمة تُكتب وتُترك في مكان ما من مدائن العالم كما تقتضيه طقوس الغرام. كتابة الأفكار والأشعار والروايات أو أي صنف آخر عشق لا ينتهي، هناك علاقة بين العشق والكتابة. يتحوّل هذا العشق إلى شغف متواصل، إدمان الكتابة لا شفاء منه كما إدمان القراءة. شغف الكتابة هو شغف بالسلطة، سلطة الكلمات وسلطة الاستعارات والمجازات. النصّ المُوارب هو النصّ الأجمل، يحرسُ الذاكرة من التلاشي ويبقيها في انتشاء متواصل، هو تلك المسافة المدهشة بين العين ومرمى البصر، هو ذاك الغموض الفاضح الذي لا ندري متى يتلبّس بنا. رائحة الكلمات التي نكتبها مجازية، ولكن من فرط مجازيتها نشتمّها كما لو أنها عطر جسد يُعوّلُ على ذكراه.

الكتابة ليست لعبة شطرنج، هي أقرب إلى كرة القدم لعبة تختزل الوجود البشري بأكمله. هناك قواعد وهناك أيضا حريّة وخروج من العقال، هناك لامُتوقّع إلى أخر اللحظات، هناك تدريب قبل العرض الأخير، لا تدري إلى ماذا تقودنا النهايات، قد تقودنا إلى بدايات جديدة، يحدث هذا في الكتابة وفي كرة القدم. في الكتابة هناك حيل الكلمات، في كرة القدم هناك حيلُ المراوغة، في الكتابة هناك ترجيح لكلمات ولصياغات وتراكيب، في كرة القدم هناك أيضا ركلات الترجيح الحاسمة، هناك رائعون لا تتوانى على إعادة قراءتهم، في كرة القدم هناك مارادونا لا تملّ الفرجة فيه. القراء يشاركون رمزيا الكاتب كتابته، وفي كرة القدم يشارك المناصرون رمزيا اللاعبين لعبهم. القراءُ نُقاد للكاتب، المناصرون يناقشون أساليب اللعب وكأنهم المدرّبون على الميدان. في اللقاء بين الكتابة وكرة القدم هناك رائعة إدواردو قاليانو « كرة القدم بين الشمس والظل» كتاب لذيذ عن عوالم هذه اللعبة. كنّا يوما في الملعب.

الكتابة مكان للقاء بعيدا عن الأعين، لا يراك أحد عندما تقرأ، يمكنك أن تُنكر القراءة أيضا، يمكنك أن تجعلها طقسا سريّا. الكتابة مساحة حرّة للتخيّل ولإعادة تركيب الواقع، استعراض قوة واستعراض ضعف في الآن نفسه. الكتابة هي كل ما تريد أن تقوله وكل ما لا تريد قوله، وهي الرغبة التي تحدو الآخرين لقول شيء ما. الكتابة مستنقع لذيذ إذا ما دخلته لا تستطيع الخروج منه، قارئ النص هو الآخر يتلذذ هذا المستنقع، يُدمنه لأنه بكل بساطة يحمل كلماته في قلبه.

آخر ديوان محمود درويش عنوانه: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115