الدولة، أعراس الكورونا وعموم المواطنين

لا يكفّ الناس عن الاحتفال في الحروب الكبرى فما بالك في الجوائح. المأساة والملهاة مقولتان لا تنفصلان. يعرف الإنسان أنه فان لكن عقله

الباطني يريد الخلود يقول فرويد. وبين الفناء والخلود نبحث عن منطقة وسطى لدرء اللايقين. نتساءل لماذا والحالة الصحية كارثية والرقص متواصل، هل نقاوم التاناتوس بالجسد وبمشاعر الفرح؟ هل نمنح لأنفسنا صيفا جميلا مع التغاضي عن مخاطر الجائحة؟
لا يبالي الناس بنداءات الدولة، يواصلون حياتهم ويرتبون تفاصيلها ويقنعون أنفسهم بأن المسائل لا تحتاج كل هذا الهلع. نوع من الإنكار والتعالي في مواجهة الموت. ولكن يحدث هذا في سياق ثقافي وسوسيولوجي وتاريخي في علاقة المواطنين بالدولة. إذ أن الموانع التي رسمتها الدولة في كل مرّة تسوء فيها الوضعية خلال الجائحة هي موانع شبيهة بالإكراهات الكلاسيكية التي تنظم علاقة الدولة بالمجتمع أو هكذا يتمثلونها. في الصين وفي اليابان و المجتمعات المشابهة هناك انضباط تاريخي للدولة و لإكراهاتها، الحريات الفردية تأتي بعد ذلك. في أوروبا الحريات الفردية على أهمية بالغة والناس يرفضون التدخل السافر للدولة في هذا الحيّز، والدولة ذاتها تعطي المسألة الاعتبار الكافي. ولهذا نجحت آسيا وكان لأوروبا نصف نجاح في مواجهة الجائحة. عندنا العلاقة بين الدولة والمجتمع علاقة كرّ وفرّ ولهذا كانت علاقتنا بالجائحة علاقة شبيهة بعلاقتنا بالدولة.
لا يستمع الناس مليا للخطاب الطبي إلا في حدود بعض النصائح أو بعض المعلومات والأرقام، عدا ذلك لا يتمثلون هذا الخطاب في تفسير علاقة سلوكهم بتأثيراته على صحتهم. ويبدو لنا أن الناس لم يتمثلوا بعدُ مستوى المخاطر التي تنتظرهم ولم تدخل هذه المخاطر في تحديد سلوكم، إنهم واعون جيدا بكل النتائج. ربّما أكثر من هذا يعلم الناس ملياّ ما ينتظرهم من الاستهتار إزاء الجائحة، ولكنهم مع ذلك لا يبالون، وفي أحيان أخرى يستهزؤون بالجائحة، ينكرون وجودها ويعبرون عن تعاليهم على مخاطرها.
لماذا يحدثُ هذا؟ لنرى هذا من زاوية علاقة الدولة بالمجتمع.
ليست المسألة قلة في الوعي، أبعدُ من ذلك، إنها تكشف عن علاقة وعن إرث بالدولة الاستبدادية، هي خلاصة علاقة مأزومة بين الدولة والمجتمع، بين الدولة وعموم المواطنين. يأتي رفض كل ما تأتيه الدولة من إكراهات والزامات كشكل من أشكال بناء التصورات في العلاقة مع الجائحة، تصبح الجائحة هنا وكأنها المقولة الشهيرة «رزق البيليك» و يجب التعامل معها على أنها كذلك، الجائحة تنتهي في أذهان الناس على أنها أيضا مسألة سياسية. هنا لا يهمّ المواطنين خطورة الظاهرة بقدر ما يهمّهم الردّ على توسلات الدولة بأن يلتزم الجميع بالإجراءات المقترحة. يصبح عدم احترام الإجراءات الوقائية والحمائية المُعلنة من الدولة ومؤسساتها لمواجهة الجائحة مثل عدم احترام إشارات المرور أو عدم احترام الشروط البيئية أو التهرب من دفع الضرائب أو غيرها من الأشياء التي يشعر فيها المواطنون بأن الدولة تُلزمهم بذلك.
هناك في عدم الالتزام بالإجراءات الوقائية عند الكثيرين شكلا من أشكال الثأر الرمزي من دولة لا تقدر إلا على فرض إكراهاتها دون أن يكون لها نجاحات ذات أثر على حياتهم. والدولة إلى هذا كلّه غير قادرة على توفير الشروط الضرورية لإنجاح إكراهاتها. الدولة غير قادرة على توفير التلاقيح وغير قادرة على توفير الأسرة والأكسجين ولا على تعويضات مالية لمن يحتاج المساعدة مثل عدم قدرتها على توفير الشغل للعاطلين، والسياسيون لم يكونوا في مستوى تحديات المرحلة. أمام كل هذا يواصل المواطنون تحدّيهم للكورونا ومخاطرها، ولكن هم في الواقع يتحدّون الدولة التي يكرهونها.
ينتبه الناس أن هذه الدولة العاجزة أمام الجائحة ارتكبت خطأ آخر هو احتكارها لوحدها الجائحة. فهي التي تُعلن عن الإجراءات والجميع ينتظر الوزير المكلف ليقول لنا عليكم النوم من الساعة الثامنة ليلا، وعليكم الخروج في الأوقات التالية دون غيرها، لم يشعر الناس أن الجائحة مشغل الجميع، لم يرو المنظمات الوطنية حاضرة في كل تفاصيل الجائحة و لا الشخصيات الاعتبارية أو النوادي الرياضية ذات الشعبية العالية، أو مؤسسات المجتمع المدني. هم يسمعون بأن هناك لجانا علمية ووطنية، ولكنها هلامية لا أثر لوجودها تقريبا إلا عند إعلان الإجراءات.
ولهذا لا يتوانى الناس في تنظيم أعراسهم، هم على الأقل أقدر من الدولة في هذا الشأن. لا تستطيع الدولة بالإقناع حثّ مواطنيها على إبطال أعراسهم، بالقوة العامة هذا مُتاح، ولكنه مُكلف.
هنا نواجه إكراهات الكورونا بإكراهات الطقوس، الثابت يواجه الطارئ. وفي الحالة هذه تنتصر الطقوس ويواصل الناس عيشهم بكل التفاصيل المُتعوّد عليها. هم يعتقدون أن وضع الطقوس جانبا هي هزيمة أمام الكورونا، وهم لا يرغبون في الهزيمة أمام الدولة وأمام الكورونا معا، ولا يرغبون ايضا في الهزيمة الرمزية أمام غياب إكراه تبادل الهبات في الأعراس وفي المناسبات المشابهة. تلك مسألة لا تضاهيها قوة الدولة ولا الخطاب العلمي ولا حسابات الضرر الصحي.
هؤلاء يقولون للدولة التي تمنع عليهم أعراسهم ولا تنفك تغرقهم بالنصائح اليومية «من كان بيته من زجاج، لا يرمي بيوت الآخرين بالحجر» وفي سياق سوسيولوجي يقولون «عرسنا سابق...».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115