ونعيد تركيبها بما يحلو لنا أو بما يحلو لتفاصيلها. والذاكرة إلى كلّ هذا نسيان متواصل، ذاكرة للنسيان ونسيان للذاكرة، غزالة متنطّعة تأبى الحصار. في روايته الرائعة الحب في أزمة الكوليرا يتحدث غابريال غارسيا ماركيز عن بطلته التي كلما همّت بنسيان حبيبها إلاّ وكان ذلك دافعا أكبر لتذكره. تعيد الكرّة مرات ومرات، ولكنها تبقى أسيرة ذاكرتها دوما. عندما تعلق ذاكرة بفرد ما من الصعب عليه محوها. هذا هو مكر الذاكرة وخديعتها الكبرى.
الذاكرة اختزالية وانتقائية، نقوم بتشكيلها، ننسى أو نحاول تناسي ما يزعجنا في تفاصيلها وما يسعدنا في تفاصيلها أيضا ولهذا ليست الذاكرة مجرد معطى موضوعي، إنها فعل الفرد في نفسه. وحتى وإن أوهمت الآخرين أن ليس لك ذاكرة أو أنّ لك منها نصيب، فالذاكرة في العيون وإن عطّلها البيان. حدّق ملياّ في العيون ترى الذاكرة. والذاكرة جماعية أيضا، ذاكرة شعوب وذاكرة جماعات، حركات تحرر وحركات احتجاج، للأجيال ذاكرتها وللمدن والقرى، كرة القدم أيضا منضب ذاكرة لا تملّ، المدرسة وحدها مرفأ ذاكرة وحنين يستدعي حنينا. نحمل معنا ذاكرتنا كما نحمل معنا هويتنا. في سياقات تأتيك وفرة ذاكرة تمارس عليك حضورها وتستبدّ بك وكأنها مرض عضال، وفي سياقات أخرى تُسعدك الذاكرة فتبحث عنها وتترجاها أن تسعفك بتفاصيل التفاصيل، فتعيد ترتيب أشياءها وكأنها نصّ بصدد الكتابة. وأنت تشكلها على مزاجك تعيد تعريفها من جديد، تعطيها ألقا لم يكن لها. ولهذا ليست الذاكرة خزان تفاصيل لأشياء في الماضي، إنها مسار مستمر، هي اختزال للوجود البشري.
تتشكل الذاكرة في طرق الحج وطرق الحرير وطرق التجارة والتصوّف، تتشكل أيضا في الحروب وفي الحركات الهجروية وفي الأسفار والرحلات. في الأسفار القديمة كما الحديثة تُصنع الذاكرة كلمات وصور. ابن بطوطة دوّن رحلته متذكرا تفاصيل ما عاشه، ولكن لا نكتب ذاكرتنا بتفاصيل ما شاهدناه، بل نكتب ذاكرتنا بما نريد مشاهدته وهذا ما حصُل لابن بطوطة. لقد كتب ذاكرته بما يحمله من تمثلات حول أمكنة الذاكرة وأزمنتها ولهذا كل ذاكرة هي انتقائية بالضرورة، إنه كتب ذاكرته قبل أن تحدُث. وحين نأخذ صورا عن أسفارنا الحديثة بكل طقوس المناسبة نخزنها في ألبومات هواتفنا، نستعرضها كلما كانت هناك حاجة إلى ذلك، نُتلفها عندما تأتي الحاجة إلى إتلافها، ولكن إتلافها هذا لن يمحيها، إنها كيدية ولعوب هي الذاكرة، توهمنا أنها انفصلت علينا وأننا بالكاد تخلصنا منها، ولكنها تبقى راسبة بين الثنايا تأتينا كلما اعتقدنا أنها لم تعد تُناسبنا، لا تأتمنوا سلّة المهملات في هواتفكم. نتذكّر صورنا بتفاصيل مضامينها، ولكن في أغلب الأحيان ننسى مُلتقطها أو نغضّ الطرف عنه. من بنى ذاكرة طويلة المدى عليه تحمّلها، لا يضعها على الأرصفة ويمضي، ولا يهرب بها إلى المرافئ، يتركها أشرعة للرياح أنسبُ.
هناك دوما متّسع من الذاكرة، نلوذ بها عندما تصبح الأشياء اعتيادية، أيامنا اعتيادية، لا تأتينا الذاكرة إلا في لحظات الفراغ، في لحظات العزلة الاختيارية، إنها ماكرة تتسلّل إلينا من ثقب لا نعلمها. تأتي زائرة خفيفة، نطردها وفي طردنا لها إيذانا بقدومها إلينا في مناخات أخرى. احذروا الذاكرة يقول الأرجنتيني خورخيس، اتركوها وشأنها، إنها قطعة من زجاج الكريستال لا تحتمل اللمس كثيرا. ويحدث أن تُسافر إلى أقاصي المكان لتتنصّل منها وتتركها وحيدة، تجدها قد سبقتك، تستقبلك في صالة المطار، تختم لك جواز السفر وتمنحك هوية جديدة، فتُصبح لاجئ ذاكرة.
هل للجسد ذاكرة؟ بلى، له ألف ذاكرة وذاكرة. نحن الذين نبتكر أجسادنا، نُزينها، نبهج بها، نجعلها دافعا للغرور، نخوض بها حروبا رمزية لا نهاية لها، نهرب بها من ذاكرة الفضيحة ومن ذاكرة القطيعة، أجسادُنا تُخاطبنا ونُخاطب بها الآخرين، تدعونا إلى اللّهو، نُخضعها لجراحات التجميل ونُخضعها لجراحات الذاكرة أيضا. وذاكرة الجسد رائحته، دون ذلك، تتعرّى المرأة كلاما ويتعرّى الجسد ذاكرة.
من فرط الذاكرة نتخيل أنها تحبس أنفاسها، قد تحبس أنفاسها لبُرهة من الزمن، يوم يومان، عام عامان، ونتدرّب على النسيان أو نتوهم ذلك، ولكن ليس النسيان سوى هُدنة نُرتّب داخلها بعض التفاصيل العالقة، ونعود سريعا إلى تبغ الذاكرة حتى ولو أقلعنا عن التدخين. نعود إلى شغفها الذي يستبدّ بنا، إنها ليست سوى حنين للمستقبل...
تِبغُ الذاكرة
- بقلم محمد جويلي
- 10:37 08/06/2021
- 1342 عدد المشاهدات
الإنسان ذاكرة، والذاكرة إنسانية في مداها. نحمل معنا ذاكرتنا أينما حللنا، نداعبها، نستفزها ونوقض ما بها من تفاصيل. نراجعها أحيانا