اليوم أمر ، وغدا أمر ...

بقلم: عبد الحميد الجلاصي
لقد كان واضحا بعد انتخابات اكتوبر 2019 انه من شروط نجاح المنظومة الجديدة ان يحصل حل وسط في الثقافة السياسية

بين الرئيس المنتخب و منظومة الاحزاب و القوى الاساسية في البرلمان قوامه التعايش و المحافظة على الخصوصيات و المساحات . فلم يكن متوقعا ان ينخرط سعيد في الثقافة السياسية السائدة التي لا يمتلك القدرة على تغييرها.
كما لم يكن متوقعا ولا مطلوبا ان تصبح المنظومة الحزبية» قيسية «.هذا التعايش كانت تمليه ارقام الانتخابات و انغلاق الدستور بما يحرم البلاد من مخارج في اوضاع الازمات .
دون هذا الحل الوسط كانت المواجهة التي يتلوها الانسداد هي القدر المحتوم .
وبالفعل ،هذا هو الذي وصلنا اليه بعد اشهر قليلة ،فلا الاحزاب الوازنة عدلت سلوكها وأخذت بالاعتبار خصوصية الرئيس ولا الرئيس قبل التعامل مع المشهد على حاله وسعى الى تغييره وفقا للصلاحيات التي منحها له الدستور .و بالنتيجة بلغنا مرحلة «توازن العجز «.
وفِي الأثناء اتضحت استراتيجية رئيس الجمهورية :
- تعميق الازمة وتعفين الاوضاع وتعطيل دواليب الدولة و إشهاد الشارع على فشل ما يعتبره منظومة الحكم لفسح المجال امام «بديله» .
- تغيير الدستور وخاصة نظام الحكم بتوسيع صلاحياته من خلال تنصيب نفسه مؤولا وحيدا للدستور في غياب المحكمة الدستورية،و هو يقضي على اي امل لإرسائها .
لقد كانت نقطة القوة الرئيسية للمرشح قيس سعيد في حملته الانتخابية هي الظهور بمظهر التمايز الاخلاقي عن منظومة الحكم ،لكن يتضح يوما بعد يوم انه لا يقل فسادا عمن ينتقدهم ،اذ ان ارتهان البلاد في قلب ازمة خانقة وإغلاق كل منافذ الحلول بتوظيف موقع الرئاسة وهو موقع سياسي ،لحسم قضايا ليست من مشمولاته ليس سوى عملية تحيل وفقا لمنهج حرفي ينتج فتاوى تعارضها «المجموعة العلمية».ومعلوم ما جنته العقول الظاهرية المغلقة على الشعوب و الامم .
في هذه المعركة التي يخوضها الرئيس ،الممثل الاساسي للدولة ،من داخل الدولة ولكن ضده سنصل، ان استمر الوضع على ما هو عليه، الى دولتين و الى ولاءات متعددة ،وسنعيد عقارب التاريخ الى معركة الباشية و الحسينية .
من حق كل العقلاء ان يتصدوا لمحاولات التاثير على المؤسسة القضائية او المؤسسة الأمنية و لمحاولات توظيف الاعلام .و المخاطر في هذا الباب حقيقية .و لكن الرئاسة،وهي تتهم خصومها تسقط في نفس الاخطاء من خارج الدستور ومن خارج العقد الجمهوري . و سنجد أنفسنا امام امن و قضاء و اعلام وولاة تابعين لقرطاج مقابل امثالهم تابعين للقصبة .وعوض ان نبني دولتنا الجديدة نفكك ما كان قائما .
لذلك لا بد ان نعلن بصوت مرتفع ان الرئيس المنتخب لم يعد فقط عنصر تعويق بل هو بصدد التحول الى خطر على الدولة وعلى الثورة التي يدعي الانتساب اليها .لان الثورة هي في جوهرها عقل في التاريخ .
-2-لقد كان من حق المواطن قيس سعيد ان يترشح لرئاسة الجمهورية ،و هو حق اتاحته له ثورة التونسيين و أتاحه له دستور جمهوريتها الثانية. و لكن لعله يجدر التذكير ان انتخاب السيد سعيد لم يكن اختيارا لبرنامج -و هو في الحقيقة لم يتقدم ببرنامج - وانما كان اختيارا لصورة مناقضة للممارسة السياسية في الخمس سنوات السابقة .ان الحقيقة الكبرى التي لا يجب نسيانها ان منظومة 14-19هي التي انتخبت السيد قيس سعيد .اما الحقيقة الاخرى فهي ان الاطراف الاساسية في منظومة ما بعد 19 بتكديسها الاخطاء السياسية و الاخلاقية هي التي فسحت المساحات للرئيس سعيد ليتوغل في انتهاكه للدستور .
و لئن كان التصدي لكل مظاهر سوء التصرف والفساد في مؤسسات الدولة وفِي الفضاء الحزبي و في الممارسة السياسية واجب وطني، فاننا لسنا مضطرين للاختيار بين القبول بمثل هذه الحالة او التسليم لنزعات الاستبداد او الفوضى .و الاستبداد هو راس المفاسد .
-3-النقاش الدستوري في معركة سياسية :
انه لا مفاجاة في سلوك وردود فعل الرئيس سعيد .فهو متناسق مع مزاجه ،ولذلك فان العجيب هو التعامل مع تجاوزاته بالاستغراق في النقاش القانوني و الدستوري .و على اهمية هذين المدخلين فاني اعتبر ان سعيد هو الكاسب الوحيد من هذه الوضعية ،فهو يجر الجميع الى مربعه ،و الى نقاش غير ذي معني ،لانه نصب نفسه حكما ولانه يعرقل اي امكانية لاختيار حكم محايد .
و لذلك فان المطلوب هو العودة الى ساحة الصراع الحقيقي ،و هي الساحة السياسية ،و هذا ما قصرت فيها الاحزاب منذ الانتخابات الاخيرة رغم وجود شخصيات وطنية صادقة عبرت عن استعدادها للمساعدة و لم تجد سوى الأبواب المغلقة .
لا اخشى على البلاد من انقلاب على الشاكلة المصرية كما يحن الى ذلك بعض الديموقراطيين من عشاق المهدي المنتظر ،فقد كانت المؤسستان الأمنية و العسكرية من اكبر المستفيدين من الثورة و اصبح ولاؤهما تعاقديا للجمهورية و الدستور . ولقد حاول احد رؤساء الحكومات في السنوات الاخيرة توظيف احداهما و لم يجد الا الصد و التمسك بالقانون .
ان الخطر يكمن في مواصلة الرئيس التلاعب بالدستور و تفكيك الدولة وتحصن البقية بالتحليل وتسجيل المواقف او اللجوء الى وسائل تزيد الساحة تعفّنا و تدفع سعيد الى مربعات رد الفعل .
لا نحتاج الى كثير من الخيال لنتوقع رد فعل بشر يتهم خلال أسبوع واحد فقط بمقابلة مسؤولين صهاينة و بالتخطيط لانقلاب بالتعاون مع دولة اجنبية و بالضلوع في فضيحة اخلاقية و بالعمالة لأمريكا طورا و لفرنسا طورا اخر و لمصر والإمارات طورا ثالثا.
نفس الوسائل و الأساليب التي دمرت السياسة في العهدة السابقة .ربما نفس الوجوه ايضا .
دون تحديد مربعات و اخلاق الصراع السياسي ستستمر حرب الكل ضد الكل دون مضمون يستجيب لحالة الافلاس و انسداد الافاق و الموت اليومي و قوارب الفرار الى الضفة الشمالية للمتوسط .
وحينها لن يستمر صمت الشارع و لا سكوت الشباب و ستواجه البلاد انفجارا لا احد يدرى مآله.
ان الغضب لا يهتم كثيرا بالبحث عن الأفق ،اذ ان كل الذي يحركه هو ان الوضع غير قابل للاحتمال .و هذا هو بالتحديد تعريف التمرد ،اي رفض الحالة القائمة دون انتظار تبلور البديل .
اننا اذا اردنا التوقي من هذا المآل فلا بد من تجمع القوى الوطنية و الديموقراطية على ارضية حماية الدولة و الدستور و ضبط قواعد ادارة التنافس السياسي، وتحديد خارطة طريق من اجل المستقبل تتضمن الحد الأدنى من المضمون الاجتماعي و الاتفاق على الصيغ التنفيذية التي تحقق محتوى هذا الالتقاء .وهو التقاء ليس موجها ضد الرئيس و انما هو لإنقاذ الرئيس من هواه .
ان رفض كثير من الفاعلين لتجاوزات الرئيس تؤكد ان تشكيل هذه الجبهة أمر ممكن .فامام المخاطر الكبرى يلتقي العقلاء .
بامكاننا اليوم التحرك لإنقاذ ما يمكن انقاذه ،اما غدا فقد لا نجد دموعا نبكي بها تضييع اغلى هدية وهبت لنا منذ الاستقلال .
ولا شيء اخطر على الامم و الشعوب من التراخي .
ختاما :
ان الحلول تزداد كل يوم صعوبة وتعقيدا .
وارجح ان الوضع الحالي،يعني تواصل البلوكاج،غير قابل للاستمرار ،على خلاف الحال سنة 2018 ،لان الرئيس حينها كان الباجي ،و لان الانتخابات كانت قريبة.
اليوم الوضع مختلف تماما ،خاصة مع انفلات الفضاء الافتراضي في تدمير كل شيء ومع صعود نجوم ينشرون اكثر السيناريوات غرابة لتلبية حاجة نفسية لدى جمهور المستهلكين. في حين تكون قيادات الاحزاب اما غير منتبهة لمخاطر هذا الوضع او عاجزة عن تطويقه او مستفيدة منه او متورطة فيه لخوص معاركها.
وكاميرا التسريبات موجهة باتجاه معين ،لو تغيرت زاوية التصوير لما اختلف الامر كثيرا .
ان ما يحدث لا يدمر الحاضر .انه يقضي على المستقبل .
يكفي الاطلاع على بعض الأسماء التي تصنع الرأي العام في الفضاء الازرق حتى ندرك حجم رثاثة المشهد الحزبي والديموقراطية في البلاد .
ان صح هذا التوقع فالخيارات الممكنة هي التالية:
- إبرام عقد تعايش مع القوى القابلة بذلك من خلال حكومة إنقاذ سياسية تعين الرئيس على الالتزام بمربعه و تهديء البرلمان ،والمبادرة في هذا بيد الحزب الاول،وقد يجد من يعينه على تجميع الصف الديموقراطي الوطني .
- الاتفاق على ترتيبات فك الارتباط من أجل انتخابات تشريعية سابقة لأوانها.
إذا لم يحصل اي من هذين الخيارين (التعايش او فك الارتباط ) فقد يكون مطلوبا من الوطنيين في المجتمع المدني وغيرهو قيادة عملية تمرد ضد المؤسسات من أجل اجبارها على اعادة العهدة ،كل ذلك خشية أن يخرج الشارع و ينفلت على الجميع .
وايا ما كانت مآلات هذه المعارك،و بالنظر إلى حجم التخريب الذي حصل في الساحة السياسية، فإن العودة إلى ديناميكية سياسية تنجح في تغيير واقع الناس ستأخذ وقتا .للاسف .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115