هل أن إثبات الفساد مهمة القضاء دون سواه؟ (حول إشكالية الحقيقة القضائية والحقيقة الحقيقية / الواقعية)

بقلم: الأستاذ سالم السحيمي المحامي لدى التعقيب
« La vérité judiciaire et la vraie vérité sont deux choses distinctes »
M.Prevost
« la vérité judiciaire est une chose alors que la vraie vérité peut être une autre chose »
Divier kless

من بين الموضوعات التي مثلت قضية هامة للنقاش منذ عقود وخاصة في الأعوام الأخيرة ( بفعل الانفجار الإعلامي وتفشي ووسائل الاتصال والإخبار ) مسألة هل يحق لوسائل الإعلام عموما الحديث عن تورط بعض الشخصيات العامة في الفساد في غياب أحكام قضائية باتة وهل يمكن التفريق بطريقة أو بأخرى بين ما هو «معلوم» و «متعارف عليه» من «حقائق» إعلامية واجتماعية وبين الحقائق القضائية .
لهذه الإشكالية بـُعدٌ عملي يتعلق بعمل الإعلام وما يثبته العمل الصحفي ( والاستقصائي خاصة ) و«ما لم يثبته» أو لم يُثبته بعدُ القضاء في تهمة الفساد أو حتى تهمة الإرهاب ضد شخص معين ولها كذلك بعد فلسفي / قانوني متعلق بحدود وحقيقة وحجية الأحكام القضائية ومدى تطابق الأحكام والحقائق القضائية vérité judiciaire/vérité vraie وماهي الإمكانية التي تحيلها فكرة البحث عن الحقيقة في المحاكمة الجزائية ؟ (1)
هذه الإمكانية كانت ولا زالت موضوع بحث ونقاش ودراسات معمقة في وجهها العملي ووجهها الفلسفي وموضوع العديد من الندوات والملتقيات خاصة في ما يحق إشكالية الحقيقة القضائية والحقيقة الإعلامية vérité judiciaire /vérité médiatique .وعلاقة ذلك بالحرية والديمقراطية وخاصة مدى قبول فكرة احتكار القضاء للحقيقة ( في المطلق) خاصة وانه يحتكر قانونا «الحقيقة القضائية» دون منازع بقاعدة اتصال القضاء l’autorité de la chose jugée
I) الحقيقة القضائية والحقائق الأخرى
في إطار دراسة الحقيقة القضائية في علاقة بالحقيقة الواقعية ( الحقيقية ) عملت الأبحاث على تحديد حدود Limites الحقيقة القضائية في علاقة بعديد الأنواع من الحقائق باعتبار وان عبارة الحقيقة هي في المفرد في حين أن الحقيقة هي دائما متعددة1 «la vérité est toujours au pluriel»
يمكن مقارنة الحقيقة القضائية بالحقيقة العلمية أو بالحقيقة الواقعية أو بالحقيقة الفلسفية أو التاريخية وغيرها وهي كلها أوجه لواقعة مادية معينة يفصل فيها القاضي فقط الحقيقة القضائية دون غيرها من الحقائق ودون أن يصادر حق غيره ( المؤرخ, الصحفي ,الباحث في القانون ..) في التعامل مع الموضوع بشكل مختلف ومنهجيات وضوابط بحثية مختلفة قد تفضي الى نتائج مختلفة.
فالحقيقة القضائية هي حقيقة تولد مع الزمن وتنتهي مع الزمن في حين أن الحقيقة العلمية أو الحقيقة الفلسفية لا تتأثر مبدئيا بالزمن بل تتأثر بقدرتها على الصمود ليس أمام الزمن بل أمام الحقائق العلمية والفلسفية الجديدة , كما أن الحقيقة التاريخية والعلمية والفلسفية وفي إطار البحث على حقيقتها غير مقيدة بآجال محددة لا يمكن تجاوزها بل لها كل الوقت للوصول لهدفها على عكس الحقيقة القضائية 2.
من ذلك مثلا وان «الحقيقة القضائية مقترنة ومرهونة بعامل الزمن ذلك أن الخصوم يجدون أنفسهم مدعوون إلى تقديم الأدلة في فترة زمنية محددة على خلاف الحقيقة الفلسفية أو العلمية التي لا يعتبرها فيها عامل الزمن ....».
وذهب منطق التفصيل والتفريق بين الحقيقة القضائية وغيرها من الحقائق إلى حد التفريق بين الحقيقة القضائية والحقيقة القانونية على أساس أن الحقيقة القانونية هي «الحقيقة المؤسسة على دليل يضبطه القانون» في حين أن الحقيقة القضائية هي حقيقة مؤسسة على دليل (حجة) القاضي أو «حقيقة مؤسسة على راي القاضي » 3.
أن المؤرخ مثلا يعتمد في أبحاثه التاريخية على عدة عناصر ووثائق وشهادات ومنها ما أثبته القضاء من حقائق دون التوقف عندها والتقيد بها لان مجال الإثبات في البحث عن الحقيقة التاريخية هو مجال شاسع وحر و مفتوح وخاضع للمنطق والمعقولية (النظر والتحقيق على معنى ابن خلدون) في حين أن الحقيقة القضائية هي حقيقة مقيدة سلفا بوسائل إثبات قانونية مضبوطة ومقيدة بزمن معين (زمن الوجود وزمن البقاء) وهو يجعل من الحقيقة القضائية لا تكون من أولوياتها الحقيقة بل أهم أولوياتها « السلم الاجتماعي» و«الاستقرار القانوني» وهو ما يعرف باتصال القضاء 3'.
II) ما هية وخصائص الحقيقة القضائية :
تعرف الحقيقة القضائية عادة بأنها « الحقيقة التي يقرها أو يثبتها القاضي في حكمه » 4 .
وتتميز هذه الحقيقة القضائية بعدة خصائص منها:
أولا : أنها حقيقة شكلية Vérité formelle ويقصد هنا بأنها حقيقة شكلية أنها مؤسسة أساسا على عملية استدلال منطقي داخلي يجب أن يكون هذا الاستدلال متناسقا ومنطقيا وغير متناقض . فالحقيقة القضائية هي حقيقة شكلية بمعنى انه يجب « عدم التناقض بين مكونات الحكم» وعدم التعارض بين المقدمات والنتائج , فما وقع إقراره في الحقيقة القضائية هو نتيجة لقراءة معينة للوقائع والقانون من خلال «تكييف qualification للوقائع, وتأويل للقانون وتقدير للحجج ووسائل الإثبات» 4' .
ثانيا : حقيقة إجرائية Vérité procédurale ويعني ذلك أنها ليست حقيقة حرة بل هي مقيدة بإجراءات ووسائل إثبات مقررة قانونا وبشكل قبلي .
فهذه الحقيقة « لا تعتمد على الواقع أو تستند إليه وإنما تقوم كقاعدة عامة على الأدلة التي عرضت وفق الطرق التي حددها القانون مسبقا » 5.
فالحقيقة القضائية إذا لا توجد إلا بشكليات وإجراءات ووسائل إثبات معينة في أجال معينة وخارج هذه الشكليات والإجراءات والضوابط القانونية لا يعمل القاضي, بل الأكثر من ذلك فان القاضي يضحي بالحقيقة احتراما للقانون والشكليات والآجال القانونية لان القاضي وحسب تعريف بعض الدراسات الفلسفية القانونية هو الذي «ينتصر للقانون ولكن لا ينتصر للحقيقة» 6 وهو ما يؤدي إلى أن القاضي لا يقبل اي نوع من الأدلة حتى يمكنه إثبات وقائع معينة «بل يقبل فقط وسائل الإثبات القانونية».
فالقاضي يثبت بالحكم الحقيقة كما يراها القانون ويضبط لها وسائل إثبات مسبقة بصرف النظر عن الواقع بالرغم وان هذه الحقيقة القضائية (القانونية) « ينبغي أن تكون متطابقة بقدر الإمكان مع الحقيقة الواقعية أو العلمية ... فالحقيقة يمكن أن تكون موجودة في الواقع لكن لا يوجد دليل مقبول قانونا على وجوده مما يؤدي إلى عدم الاعتراف بها إمام القضاء. وهكذا فان الحقيقة تكون موجودة في الواقع ولكن لا يثبت وجودها أمام القضاء» 7 من ذلك مثلا وان بعض البيوعات القانونية التي يشترط القانونية وسائل إثبات محددة ومعينة لإثباتها فان هذه العمليات يكون قد حصلت فعليا في الواقع وقد يعلم بها عدد كبير من الناس ومع ذلك فان هذه البيوعات لم تحصل ولا اثر ولا وجود قانوني لها إمام القاضي في غياب شكليات معينة. وهذا ما دفع الدارسون للتأكيد على أن الحقيقة القضائية هي حقيقة من نوع خاص Spécifique (إجرائية وشكلية ) وهي بالتالي حقيقة نسبية وفي كثير من الحالات هي حقيقة اتفاقية conventionnelle وتوصف كذلك حسب الدراسات في حالة اعتماد الاعتراف l’aveu كوسيلة إثبات للحكم وحالة المحاكمة مع القبول المسبق بالإدانة reconnaissance préalable de culpabilité في هذه الصورة تكون الحقيقة القضائية هي الحقيقة التي أرادها المتهم وليست التي توصل لها القاضي .
III) حدود الحقيقة القضائية:
أن الحقيقة القضائية هي الحقيقة التي يقررها ويصرح بها القضاء طبق إجراءات ووسائل إثبات قانونية ولا يشترط القانون أن تكون هذه الحقيقة القضائية متطابقة مع الحقيقة الواقعية بل يشترط فقط أن تكون متطابقة مع الإجراءات والقانون . ولهذا اعتبرت الحقيقة القضائية هي حقيقة محدودة بضوابط وحدود القانون ( في ما يخص الإجراءات والإثبات والآجال ..) مما حدى ببعض شراح القانون بالقول بان القاضي لا يبحث عن الحقيقة بل يبحث على فصل الخصومة طبق ما يلزمه به القانون من إجراءات وضوابط ووسائل إثبات .
وفي هذا الإطار أكد احد رجال القانون البلجيكيين في دراسة له في هذا الموضوع وان « le but du procès n’est pas la vérité mais l’obtention de le chose jugée » 8) .
وذهب في نفس الاتجاه احد الدارسين في المغرب بان « الحقيقة هي حقيقة قانونية بمعنى أنها تنبني على الأدلة المقبولة والقانونية بصرف النظر عن صحة تلك الأدلة أو إذا كانت مطلقة أو نسبية وبالتالي فان الحقيقة القضائية ليست حقيقة حقيقية بمعنى أنها ليست حقيقة معلنة عن الحقيقة المطابقة للواقع» 9.
فالقاضي بما في ذلك القاضي الجزائي يكرس حقيقة قضائية كما يحددها القانون وليس بالضرورة كما هي في الواقع وذلك في عدة حالات وصور منها على سبيل المثال :
1) سقوط الدعوى بمرور الزمن :
من الممكن قانونا أن يرتكب شخص معين فعل إجرامي ثابت ولا شك فيه ومع ذلك يحكم ضده «بعدم سماع الدعوى» بفعل سقوط التتبع بمرور الزمن . عندها يكون هناك حقيقتان: حقيقة قضائية ( المتهم صدر ضده حكم بعدم سماع الدعوى)وحقيقة حقيقية ( أن هذا المتهم ارتكب فعل إجرامي ثابت ماديا وواقعيا )
2 ) حالة الشك والحكم بالجزم واليقين :
قد يصدر القضاء في كثير من الحالات إحكاما قضائية بتبرئة المتهم لوجود حالة شك ولان القاضي لم يتوصل لحالة «الجزم واليقين».
ولئن قبل شراح القانون مبدأ أن القاضي من حقه (ومن حق المتهم كذلك) أن يجعل حالة الشك (وغياب الجزم واليقين) في صالح المتهم والحكم بعدم الإدانة إلا أنهم اعتبر أن هذه الخصائص تتعلق فقط بالحقيقة القضائية دون غيرها من الحقائق ومنها الحقيقة الحقيقية / الواقعية أو الحقيقة الإعلامية أو التاريخية ضرورة أن «حالة الشك» تعني منطقيا وان المتهم يمكن أن يكون «لم يرتكب الفعل» كما يمكن أن يكون قد ارتكبه «وقد وقع التعبير على ذلك بشكل دقيق» s’il y a de doute c’est donc qu’il pourrait être coupable
هذا يعني أن الحقيقة القضائية التي ارتكزت على حالة الشك هي حقيقة قانونية وسليمة باعتبار انه من حق المتهم عدم إدانته مع وجود شك «ومن واجب القاضي تمتيع المتهم بامتياز قاعدة» الشك ينتفع به المتهم «لكن ذلك لا يعني واقعيا ومنطقيا أن الفعل المنسوب للمتهم هو فعل لم يرتكبه بل أن الشك يكون في اتجاهين حتى أن المهتمين بدراسة الموضوع قد أكدوا على أن هذه الأحكام هي أحكام» بعدم الإدانة non culpabilité وليست أحكام بالبراءة innocence ) 10) .
اي أن القاضي الجزائي لا يحكم ببراءة المتهم والجزم بعدم ارتكابه للفعل الإجرامي بل يقضي بعدم إمكانية إدانته بما هو متوفر لديه من مؤيدات وإثباتات في ملف الدعوى لعدم كفاية الحجة أو لعدم احترام شكليات معينة أو لعدم توفر دليل قانوني ضده أو لسقوط الدعوى بمرور الزمن وغيرها , هذا لا يعني أن ما صدر على القاضي كان «الحقيقة» لان هذه الحقيقة « قد تكون ملا السمع والبصر ولكنها لا تصبح حقيقة قضائية إلا إذا استطيع إثباتها بالطرق التي حددها التشريع والنظام» 11.
وقد يصل الآمر إلى حد أن القاضي يقضي بحقيقة قضائية يعلم هو إنها مخالفة للواقع الذي يعرفه شخصيا لان «القاضي لا يقض بعلمه الشخصي» ولان القاضي قد «تتجاذبه حقيقتان: الحقيقة القضائية وهي النظر في الأدلة التي حددها التشريع, ويتقيد بها والحقيقة الأخرى وهي الحقيقة الواقعية وهي الأحداث الواقعة التي يعلم بها القاضي ويشعر بها»12.
فالحقيقة التي أثبتها القضاء تكون سليمة وصحيحة من الناحية القانونية لكنها ليست بالضرورة ( وغير مطلوب منها في القانون ذلك ) أن تكون متطابقة مع الحقيقة الحقيقية او الحقيقة العلمية . وقد ورد في احد الأبحاث وان القضاء الأمريكي كان يرفض قبول دليل التحليل الجيني A.D.N ويصدر أحكامه دون الالتفات لهذه التحاليل ( عدم اعتمادها كإثبات ) ولكن بعد أن بدأ يقبلها ويعترف بها كدليل قضائي وقع تطبيق هذه التقنية على ملفات سابقة فصل فيها القضاء ( في إطار دراسات وأبحاث جامعية ) فوقع اكتشاف أن عدد كبير من الإحكام القضائية التي كرست حقائق قضائية (بالإدانة, أو بالبراءة) كانت ستذهب في اتجاه مختلف , لان عدد كبير ممن وقعت « عدم إدانتهم « في قضايا الاغتصاب مثلا لو وقع اللجوء لوسيلة التحليل الجيني لكانت الحقيقة في غير ما ذهب إليه القضاء والعكس بالعكس, وكانت الوضعية موزعة بين حقيقة علمية ( وجود اغتصاب), وحقيقة قضائية (عدم وجود اغتصاب ) .
وفي إحدى الدراسات الأخرى وقع الإشارة على سبيل المثال وللتدليل على الفرق بين الحقيقة القضائية ( وهي حقيقة صحيحة ومتطابقة مع القانون ) وبين الحقيقة الواقعية إلي مثال مستمد من التطبيق القضائي الجزائري يتعلق بإثبات جريمة الزنا .فالتشريع الجزائي الجزائري حدد على سبيل الحصر وسائل إثبات جريمة الزنا. فوجد القاضي نفسه أمام جريمة زنا ثابتة بالصوت والصورة وثبت هذا التسجيل انه صحيح وغير مفبرك ومع ذلك فقد حسمت محكمة التعقيب الجزائرية الأمر بأنه في غياب الإثبات بأحد وسائل الإثبات المنصوص عليها على سبيل الحصر في المجلة الجزائية فان جريمة الزنا غير ثابتة وغير موجودة ( رغم وجود تسجيل وصوت وصورة ) وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة واقعية مثبتة بالصوت والصورة وحقيقة قضائية ( عدم الإدانة ) مثبتة بالحكم القضائي لغياب دليل قانوني ( وليس لغياب دليل لان الدليل موجود وهو التسجيل صوتا وصورة لكنه دليل غير قانوني) « فالقاضي لا يستطيع أن يحكم دون أدلة يعترف بها القانون» 13 وهذا ما قد يؤدي إلى « إدانة متهم بريء أو تبرئة متهم حقيقي حتى لو أن هذا القاضي متيقن في ضميره (وجدانه) أن الحقيقة غير ما ذهب إليه الحكم» 14.
إذا فالقاضي بالحقيقة القضائية يحسم مسالة وجود الجريمة لكنه لا يحسم مسالة وجود الوقائع المادية ( العنصر الفعلي Le fait ), فإذا كانت الجريمة متكونة قانونا من عنصر مادي ( أفعال ) وعنصر معنوي ( قصد / نية ) وعنصر قانوني ( وجود نص سابق الوضع يجرم الفعل ) فان هذه الجريمة لا توجد ولا تقع إدانة مرتكبها إلا بتوفر كل هذه العناصر مع بعضها ( حسب قراءة و تفسير وتأويل القاضي أي حسب ضميره ووجدانه ) وهذا يؤدي الى أنه يمكن أن توجد وقائع مادية ثابتة دون أن يؤدي ذلك لوجود جريمة ووجود إدانة وحكم عقابي لان :
- هذه العناصر المادية يمكن أن تكون موجودة وثابتة ولكن بوسائل إثبات غير قانونية ( مثل التسجيل بالصوت والصورة في جريمة الزنا أو التحليل الجيني في بعض التشاريع ...) أو أنها موجودة بوسائل إثبات لم ترتقي للكمال ( الحزم واليقين في مفهوم الإحكام الجزائية ) وضل هناك شك يفسر لصالح المتهم دون الجزم بعدم ارتكاب الفعل المنسوب إليه
- هذه العناصر المادية ( الوقائع والأفعال ) يمكن أن تثبت في الواقع ولكن لا يتحول ذلك إلى « حكم بارتكاب جريمة « لان العنصر الشرعي / القانوني غير موجود , والقانون لا يعتبر تلك الأفعال جرائم مثل حالة الاستهلاك المخدرات في تونس قبل صدور أول قانون خاص بالمخدرات, فقبل ذلك التاريخ كان هنالك أفعال مادية ( حقائق حقيقية ) تتمثل في استهلاك المخدرات بالرغم عن غياب أحكام قضائية في الموضوع (غياب حقائق قضائية) فعدم موجود حكم قضائي لا يعني غياب الحقائق الحقيقية ( يمكن اعتبارها حقيقة تاريخية).
كل هذه المعطيات والأمثلة تذهب بنا إلى التأكيد على أن ما يثبته القضاء أو ينفيه هو جزء من الحقيقة أو هي حقيقة من نوع خاص لا يختلف اثنان أنها حقيقة لكنها ليست كل الحقيقة باعتبار انه يبقى من حق العلم أن تكون له حقيقة الخاصة والمختلفة ( إذا اثبت التحليل الجيني مثلا وان شخص معين هو ابن فلان في حين أن القضاء اثبت عكس ذلك لعدم قبوله وسيلة التحليل الجيني كوسيلة إثبات , هل أن هذا يعني أن هذا العالم عليه أن يغير رأيه ؟).
كما أن للمؤرخ حقيقته التاريخية ( وإحدى عناصر الإثبات فيها الحقائق القضائية ) الخاصة والخاضعة لمناهج التحليل التاريخي من ذلك مثلا انه في غياب حكم قضائي في ارتكاب جريمة حرب ضد شخص معين يمنع الباحث أو الدارس لتاريخ أن يقول بان هذا الشخص ارتكب جريمة حرب, ولو كان ذلك كذلك لما أمكن للمؤرخين القول بان مصطفى خزندار كوزير للمالية كان فاسدا ( الأكيد انه لا يوجد حكم قضائي أو حقيقة قضائية في هذا الاتجاه).
في نفس الاتجاه فان الصحفي أو المحلل السياسي له حقيقته الصحفية التي ليس من الضروري أن تنطبق مع «الحقيقة القضائية» لان كل هذه «الحقائق» خصوصيات ومنهجيات مختلفة على أن يحترم كل منها الأصول التقنية والأخلاقية بها.
• الخاتمة:
يمكن أن نلخص الجواب عن الإشكاليات ( هي فلسفية بالأساس ) علاقة الحقيقة القضائية بالحقيقة الواقعية في العناصر التالية:
- أن الحقيقة القضائية هي حقيقة قانونية ومن نوع خاص ونسبية ( ككل الحقائق الأخرى ) وذات طابع إجرائي وشكلي
- أن الحقيقة القضائية وباعتبارها حقيقة ذات طابع إجرائي وشكلي لا تمنع المؤرخ والصحفي والمحلل السياسي من أن تكون له حقائقه الخاصة لان عدم وجود حكم بالإدانة لأي سبب كان (لوجود شك , غياب الركن الشرعي, سقوط الدعوى بمرور الزمن, وجود خلل إجرائي ..) لا يعني واقعيا أن المتهم لم يرتكب الفعل المنسوب إليه. فالصحفي والمؤرخ والمحلل السياسي معني بوجود « الفعل » ( الواقعة ) من عدمه أكثر مما هو معني بوجود « الجريمة « ولان الصحفي أو المؤرخ يشتغل على الحقيقة الواقعية و «لان الحقيقة الواقعية قد تضل بعيدة تماما عن الحقيقة القانونية « 16 فكل من واحد من هؤلاء ( القاضي/ المؤرخ / العالم / الصحفي ...) يجب أن يبقى باحثا عن « حقيقته « مع الانضباط التام لشروط عمله الخاصة وبكل حرفية و أخلاقية ( أخلاق عامة وأخلاق مهنية Déontologie).
أن الفساد أو الإرهاب أو جرائم الحرب والتعذيب أو غيرها من الجرائم هي أفعال ( fait ) تخضع لقواعد إثبات الحقائق الواقعية وتخص جميع المهتمين كالصحفيين والمؤرخين بالموضوع وهي في نفس الوقت جرائم ( الأفعال إحدى مكونات الجريمة أو ما يعرف بالمركز المادي ) وتخضع لقواعد إثبات قانونية وبالتالي فإنهما لا يؤديان بالضرورة إلى نفس النتيجة دون القدح علميا في صحة أي منهما مع احترام نسبية الصحة ولا يجب أن تخلط هنا بين كون الحقائق القضائية هي غير قابلة للمراجعة ( متى صارت باتة واتصل بها القضاء) وكون انها غير قابلة للنقد وقد عبر على ذلك احد الدارسين بقوله « on ne peut pas confondre leur irrévocabilité et leur infaillibilité » 17).
- كذلك وبما أن الحقيقة خلافية واختلافيه ومتعددة ولها أكثر من وجه فإنها موزعة في أكثر من مكان ولدى أكثر من جهة دون احتكار أو مصادرة مع احترام كل جهة لحقيقة الجهة الأخرى . فالمؤرخ ( أو الصحفي باعتباره مؤرخ الزمن الراهن ) لا يصدر الأحكام ( الحقائق القضائية ) وان القاضي لا يكتب التاريخ بل يطبق القانون في محاكمات قضائية تخضع لشروط معاييرية . jugement normatif .يكون فيها احترام القواعد والقوانين واحترام الآجال والشكليات والاستقرار القضائي (اتصال القضاء) واحترام الحياة الخاصة والحرمة الجسدية ( رفض الدليل المبني على التجسس أو التعذيب ) وكل ما يعرف بالشرعية مسبق على البحث واكتشاف الحقيقة. « le souci de la légitimité est supérieur ou désir de la vérité » (18).
وعليه فان ما نسمعه في المنابر الحوارية في كل مرة – وقعت إثارة إمكانية توجيه وصف الفساد لشخص أو لجهة معينة – بان ذلك تدخل في عمل القضاء وان القضاء وحده يثبت الفساد ( أو إرهاب أو غيره ) وانه يجب انتظار حكم قضائي ( حقيقة قضائية ) كدليل على الفساد من عدمه ليس فنيا أو فلسفيا بالصحة وإلاطلاقية التي يعتقد الكثيرون .

• المراجع:
* محاميان متخصصان في القانون الجنائي وباحثان في فلسفة القانون
(1) la verité judiciaire quelle vérité rien que le vérité ,toute la vérité : M.Van De korchève
(2) صناعة الحقيقة القضائية د . عبد المنعم حكماوي
(3) المرجع السابق
(3') دراسة M.Van De Korchève ص 2
(3 ) المرجع السابق ص 3
(4 ) الإثبات العلمي والإثبات القضائي : جعفر كاضم المالكي
(5 ) عبد المنعم حكماوي المرجع السابق ص 3
(6 ) المرجع السابق ص 4
(7 ) المرجع السابق ص 4
(8 ) المرجع السباق ص 5
(9 ) عبد المنعم حكماوي المرجع السابق ص 10
(10) Olivein kless ; la vérité judicaire page 10
(11) القاضي بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية . د عبد الطيف الغربي ( مجلة الاقتصادية سنة 2010 ) ص 6 .
(12) المرجع السابق ص 6
(13) معضلة العدالة بين الحقيقة القانونية والحقيقة القضائية د. أمل الكرفاعي ص 3
(14) المرجع السابق ص 5
(15) المرجع السابق ص 5
(16) المرجع السابق ص 7
(17) la vérité judiciaire et para-vérité en matière pénale : quelle vérité ? M. Van De Korchève . droit et société 2013/2 page 411
(18) la vérité judiciaire : M.Van de Korchève page 10
Email ; عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115