بإيالة تونس في نهاية القرن السادس عشر» في مزيد التعرّف على علاقة الممارسة القضائية بالسياقات الجديدة للواقع الاجتماعي حال حضور الأتراك بالبلاد التونسية، وتأمين ما وسمه المؤلف بـ»مأسسة» منظومة الضوابط، عبر استنطاق مختلف نصوص الفتاوى التي أنتجها «بلقاسم عظوم» (ت 1601) الذي يمكن اعتباره من أجل علماء المالكية في نهاية القرن السادس عشر، وهو متن فقهي محوري حمل لاحقا عنوان «أجوبة قاسم عظوم» (تولى تحقيقه بعناية المرحوم محمد الحبيب الهيلة وصدر عن مؤسسة بيت الحكمة في 4 أجزاء و 4000 صفحة، سنة 2004).
تضمنت العروض التي اقترحها مؤلف هذه الدراسة ثلاثة أبواب، توقفت تباعا عند مدى استقامة اعتبار ما تولى «بلقاسم عظوم» جمعه من أحكام أو فتاوى تأليفا مفردا؟ وتحديد موقع تلك العروض ضمن ما وسمه الباحث بـ «مسار الإنتاج الفقهي». في حين تم تخصيص الباب الثالث والأخير لـلتحقيق في طبيعة العلاقة بين متن الفتاوى وتنظيم المشهد الاجتماعي.
كما تم تقسيم الأبواب الثلاثة إلى ستة فصول اتصلت تباعا بـ: «بمحاولة تحديد الجنس الأدبي المناسب لما جمعه عظوم من فتاوى»، و»انخراط مسار نشر ما تم جمعه لاحقا في بناء العمل الفقهي التونسي»، في حين تعرضت فصول الباب الثاني لـ «موقع فتاوى عظوم بين فضاء الإفتاء وفضاء التصنيف»، أو إلى ما نعته المؤلف بـ: «التذييل بين أرشيف المؤلف وسجلات الفتاوى». وخاضت عروض الباب الثالث والأخير، وفي فصلين منفردين، في علاقة الفتاوى بـ»استمرارية المؤسسة» القائمة على ذلك، و»مساهمة متن الفتاوى في تماسك المنظومة القضائية وضمان حسن سير مختلف مؤسسات إيالة تونس في نهاية القرن السادس عشر».
إن الاطلاع على محصّلة هذه الدراسة يدفع منذ البداية إلى التنويه بتمكّن الباحث من المتن المصدري المختبر، وبرهنته على امتلاك كفاءة عالية في توظيفه بطريقة بدت لنا قادرة على انتاج الدلالة وإكساء مختلف فصول الدراسة مضامين تسعف القارئ في حسن الفهم وسهولة المتابعة.
فقد تنقل المؤلف بشكل متدرّج وبحد مقبول من السلاسة المنهجية أيضا من التفكير حول سياق انتاج الفتوى كمعرفة عالمة، أُخضعت لضوابط النشر واكراهاته لاحقا. وإلى التفكير بخصوص دور تلك المعرفة في حماية المؤسسات القضائية وضمان تواصل أدائها أو اتساقه عند أواخر القرن السادس عشر.
• في مناهج التحليل:
وظف ضو بسيسة لتحقيق مختلف أهدافه نماذج تحليل ساعدته على تفكيك العلاقة القائمة بين النص والمصدر والفعل Texte, source et acte، وهي نماذج استلهمها عن دراسات «أميل تيانEmile Tyan بخصوص تطوّر الفتوى وتحوّل المفتي إلى ملحق بمجالس القضاء خلال مرحلة الحكم العثماني، و»جوزيف شاخت Joseph Shacht»، الذي درس تطوّر المؤسسة القضائية إسلاميا، متفحّصا دور المفتي في مسار «الأسلمة» واستيعاب الفقه الاسلامي لمختلف الثقافات التي شملتها توسعاته. كما وظّف بكثير من الدراية أبحاث «محمَّد مسعود» و»برنكلي ميسيك Brinkley Messick» و»دافيد ستيفان بوورس David stephan Powers» (الذي تعرّض إلى عينات من فتاوى الونشريسي)، فضلا عن مراجعات «بابار جوهنسن Babar Johansen « و»وائل حلاق» القيّمة، وجميعها دراسات متخصّصة أثبتت تواصل عمليات الاستنباط في المجال الفقهي واتساقها بعد القرن العاشر الهجري/ 16م، تجاوزا لادعاءات الاستشراق وتضليله بخصوص «غلق باب الاجتهاد»، وتوسيعا لما تمّت مراكمته حول أدب النوازل مغربا ومشرقا منذ سبعينات القرن الماضي، وذلك ضمن أبحاث كل من «أحمد قاسم» و»محمد الهادي الشريف» و»الحبيب الهيلة» و»روبير برنشفيك» و»هادي روجي إدريس» و»جاك بيرك» و»جون سوفاجي» و»محمد حجّي» و»أحمد التوفيق» و»عمر بن حمادي» و»عمر بن ميرة» وغيرهم كثير.
فقد شدّد المؤلف على محورية الوظيفة التي عادت للإفتاء في صياغة التحولات المؤسساتية والاجتماعية خلال الفترة الحديثة، مُستوحيا من أبحاث «أوريال هايد Uriel Heyd» و»جون وولش جنيور John Walsh Junior» و»هارون لاييش Aharoun Layish « و»إسماعيل ورشايد Ismail Warsheid»، بخصوص حيويّة الأدوار التي اضطلع بها المفتي، سواء بمركز الخلافة الإسلامية إسطنبول أو بغيرها من الأقاليم الخاضعة للحكم العثماني، مادة تفكيره. بحيث تمثل دور المفتي في اعتباره مفسّرا للشريعة، وانتقاله من مجال التطوّع إلى مجال الاستشارة في إدارة الشأن القضائي والسهر على حسن تطبيق أصول أحكام المذهب على المسائل الطارئة أو الجديدة، وفرز الفتاوى المعلِّلَة لتلك الوضعيات وصياغة مدلول التغيير الفقهي بشكل يراعى الممارسة المحليّة ويرتقي بالأعراف إلى مرتبة التشريع في آن. لذلك شدّد ضو بسيسة - وهو على تمام صواب- على ضرورة الاعتبار بدوره كفاعل اجتماعي ساهم بشكل كبير فيما وسمه بعملية «المأسسة»، بحيث جاوزت مرتبته الواقعية في ذلك تلك التي احتلها القاضي، وذلك منذ أواخر الفترة الحفصيّة. لذلك يتعّين ومن وجهة نظر المؤلف دائما التشديد على تلك المسألة بالرغم من حقيقة فوضى الصلاحيات التي شابت مختلف مواقع أخذ القرار السياسي والتشريعي والقضائي، وكذا الصراع القائم حول طبيعة صلاحيات «الباشا» و»النائب» و»المفتي» و»القايد» بهذا الصدد
كما احتذى لتوضيح دور الإفتاء في الحياة العامة تونسيا وعند أواخر القرن السادس عشر، توجّها منهجيا غلّب القراءة الموضعِيّة lecture ponctuelle على ما سواها، مُنطلقا من الوثيقة ومن المؤسسة المنتجة ومن مجال التطبيق تحديدا، وذلك بغرض الوقوف عند علاقة الممارسة القضائية بدقة الواقع وضيقه، وبطبيعة الدور الذي عاد للإفتاء في تكييف الأعراف وتشغيل آليات الوساطة، والاعتبار برأي المفتي حال حسم النزاعات القضائية. وهو ما مكّن من تفادي مختلف المطبّات التي وقعت فيها العروض التي سيّجت النظرة إلى واقع التقاضي بردّها إلى ما صاغته مدونات فروع المذهب دون العودة بها، وفي دراسة مسألتي التقاضي وبناء المنتج الفقهي، إلى السياقات التاريخية المخصوصة، والاعتبار تبعا لذلك بما نعته المؤلف دائما بـ «استمرارية المؤسسة القضائية والفقهية»، وأهمية التشارك الاجتماعي في صياغة الضوابط الاجتماعية في آن.
وتمثل التحدي الكبير الذي رفعته هذه الدراسة في عدم الاقتصار في مساءلة تاريخ الايالة على وثائقها الأرشيفية الرسمية، والاهتمام بما قد تستقيم تسميته بـ»أرشيف الممارسة القضائية»، والتعويل على المناهج التي استندت عليها أبحاث «تيان» و»بابر» و»جوهنسن» و»حلاق»، تجاوزا لتقاليد الاجتزاء التي لازمت التعامل مع المتن الفقهي ضمن معظم البحوث التاريخية المحكّمة المتصلة بالفترة الحديثة، وتوظيف ذلك المتن بشكل أوضح لمزيد تفكيك عناصر تاريخ تونس الاجتماعي.
• دور المعالجة السياقية في فهم دور الإفتاء وصناعة الفتوى تونسيا::
مكّنت العروض المقترحة وفي مستوى أول من اقتفاء تاريخ الأثر الفقهي منذ زمن وضعه وإلى زمن طبعه ونشره، مرور بمختلف العمليات المتشعّبة والمعقّدة التي ساهمت في توسيع رواجه خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. ثم الكشف لاحقا وفي مستوى ثاني عن طبيعة الروابط التي نسجها الإفتاء مع القضاء في أدق تفاصيلها (المستفتى، والشهود، والوسطاء، والقضاة...)، حيث تبين أن فتاوى بلقاسم عظوم مثلا، قد نُقلت عن مبيضاته ومبيضات معاصريه «تجريدا وتلخيصا»، أي أنها وليدة الممارسة القضائية، أكثر من كونها نتاجا للتصنيف الفقهي على الحقيقة.
لذلك يتعيّن الاعتبار بتكييف النص خدمة لمصالح القضاة حال الاشتغال على تلك المصادر أكثر من القول بحيادها. وهو ما ألجأ واضع «فتاوى عظوم» أو «الأجوبة» إلى اختراع آلية «التذييل» قصد حفظ الحقوق في النزاعات. وجميعها ممارسات أعلت من قيمة الفتوى في عملية إعادة تركيب المشهد الاجتماعي واستمرارية البناء المؤسساتي، خاصة حال فهم السؤال في نص الفتوى لا بوصفه مظنة للتعرّف على الحُكم الشرعي، بل باعتباره آلية لإثبات الحق في النوازل واستكشاف مشاركة الوسطاء في تحرير السؤال وتوصيف مطالب رافعيه، ودور السائل فيما وسم بـ»تجريد النازلة»، وارتباط جميع ذلك بالقياس، دفعا للمفتي إلى تغيير الضوابط أو المعايير التي تحيل عليها السوابق القضائية.
وهي في مجملها ممارسات مكّنت من تقييم موقع المفتي بوصفه الحجّة في اثبات الحق، وعنصر ضغط تُلزم أراءه القاضي معرفيّا وأخلاقيا، عبر تطبيق ما حملته عروض الفتوى سواء حال انخراطها داخل سياج المذْهب أو خارجه، من دون إخلال بالقواعد الأصولية.
• في حدود إيجابيات المعالجة أو التمرين:
بقي أن نسجل جملة من التساؤلات المنهجية والمعرفية أيضا بخصوص حدود إيجابيات القراءة الـمَوْضِعِية، تلك التي سمحت باستعادة المشهد سياقيّا بخصوص علاقة ما جرى به العمل ونقصد العرف بـ «سلطة القانون» وفقا لعبارة «بيار بورديو»، الرائقة، ومحورية ضمان حصول الناس على حقوقهم، سواء خلال مرحلة ما قبل الحضور العثماني، أو في غضون ما آلت إليه أوضاع نفس المشهد الفقهي والقضائي بعد إرساء السلالتين المرادية والحسينية لاحقا؟
يبدو أن المقصد الدقيق من لفظة استمرارية بخصوص علاقة فتاوى عظوم بمجال التقاضي وبالتشكّل التدريجي للمؤسسة القضائية أيضا، هو «عدم الاكتمال»، أكثر من إحالته على مفهوم التواصل وعدم القطيعة الذي يحيل عليه استعمالنا لكلمة استمرارية. لأن تعدّد المؤسسات المخوّلة في صياغة الحقوق وقولها، يُخفي شدة المناولة والمنافسة أو الصراع الحاد بينها، حتى وإن بيّنت العروض المستجلبة هيمنة ما وسمه ضو بسيسة بالتشاركية في تحديد طبيعة الصلاحيات الممنوحة لمختلف الدوائر القضائية، واتخاذ عظوم (بحكم سلطته الفقهية) موقع الوسيط الذي دافع على صياغة تسّويات ودّية بين الهيئات، ضمنت اتساق سير تلك المؤسسات القديمة والحادثة، وذلك بالتعويل على التشارك. وهو ما تحيل عليه الاخبار المستجلبة من قبل «الوزير السراج» في «حلله السندسية» بخصوص السياقات المتّصلة باستدعاء عظوم من قبل عثمان داي (1598 - 1610) واستجوابه بخصوص وِقْفِ أصهاره المحسوبين على عائلة «الزهاني»، وتوضيح جليّة المسألة من قبل كبار شيوخ الإفتاء التونسيين واقناعه لحاكم البلاد التركي (عثمان داي 1594 - 1610) برجاحة موقف الشرع في
المسألة ووعظ الحاكم حتى «الأخذ بمجامع قلبه»، وهي حادثة مشهورة خصص لها المستعرب المشهور «جاك بيرك Jacques Berque» مقالا مفردا حمل عنوان «المفتي والانكشارية Mufti et janissaires» قبل أن يدرجه ضمن كتابه المرجعي الهام «دواخل بلاد المغرب L’intérieur du Maghreb «.
وبالجملة فإن مؤلف هذه الدراسة المهمة قد نجح في إزالة الكثير من الغموض، مُوضّحا حقيقة العلاقة التي ربطت ماضيا بين تشعّب الإجراء ومستوى تدخل ذلك في بناء السياق التاريخي. لذلك شكّل عمله ومن منظورنا الخاص إسهاما مُهما في فهم واحدة من آليات إثبات الحق وتحديد الضابط، وحرص مختلف الفاعلين على استبقاء الأدوار التي عادت لمؤسسات القضاء نظرا للدور الأساسي الذي عاد لها في الحد من تباين المصالح بين مختلف الفئات الاجتماعية تونسيا طوال الفترة الحديثة. وهو على جميع ذلك قراءة تاريخية قليلة الورود، مكّنتنا من التعرّف على سياقات الربع الأخير من القرن السادس عشر المخصوصة، بالتعويل على مدونة ساد الاعتقاد لدى الباحثين ولزمن طويل في انطوائها على شواغل تحيل على ضبط القواعد وسن الاحكام الفقهية، غير أن إخضاع تلك المدوّنة والآليات المتحكّمة في إنتاجها إلى القراءتين السياقية والتفكيكية، قد أثبتا وعلى العكس من ذلك علاقتها بصناعة الأخبار التاريخية، وأوضحا الدور الذي بوسع تلك المدونة الهامة أن تلعبه في توسيع فهمنا لمختلف السياقات التاريخية والأطوار والتعاريج المتشعّبة.