برج بابل: هات أظافرك : الجسد، علم الاجتماع والمهن الجديدة

سألت طلبتي عن نيتهم في بعث مشاريع عند تخرجهم. لم يكن الحماس كبيرا لديهم ولم يكن السؤال يدور بخاطرهم. في الأثناء أجابت أربع طالبات

بشيء من الوضوح ومن درجة عالية من الثقة. البقية لا تعنيهم المسألة. ثلاث طالبات تحدثن عن رغبتهن في بعث مشاريع عند تخرجهن تتصل بالجسد وبمتطلباته الجديدة. أما الأخرى فعبرت عن رغبتها في الاعتناء بالأطفال بإنشاء مؤسسة لهذا الغرض.

لم يكن الأمر مفاجئا للجميع، ولم تُحدث الرغبة في الخروج من دوائر علم الاجتماع والذهاب إلى مهن الجسد أي اشمئزاز أو شعور بالغرابة. أن تتولى طالبة متخرجة من علم الاجتماع مهنة تقليم الأظافر والعناية بها و تجميلها إلى الحدّ الذي يتطلب معه القيام بتدريب في الغرض ليس إلا الوجه الآخر من انتفاء الحدود بين الأشياء و بين الاختصاصات و بين الهويات. الحدود لزجة إلى الدرجة التي يمكن تغيير الوضع من النقيض إلى النقيض و إلى الدرجة التي يمكن أن يقلب فيها الشخص هويته الدراسية وينفذ إلى مجالات لا علاقة لها باختصاصه الذي أعطاه إياه التوجيه الجامعي.

لم يستطع اختصاص علم الاجتماع في تونس أن يحدّد هويته المهنية. وبالرغم من قدم الاختصاص الذي ارتبط بتأسيس الجامعة التونسية فإنه لم يستطع أن يثبّت نفسه في سوق الشغل و فقذ بالتالي هويته الشيء الذي يجعل طلبته في حيرة كبرى عندما يُسألون عن مصيرهم المهني بعد التخرج. يعود ذلك إلى مسارات تشكل اختصاص علم الاجتماع ويعود أيضا إلى قدرة الدولة على إدماجه في تدريس اللغتين العربية والفرنسية والتربية المدنية في المعاهد الثانوية وهو ما لم يعد متاحا الآن. الإدارة التونسية هي الأخرى أخذت نصيبها من خريجي هذا الاختصاص.

لم تكن للدولة التونسية رؤية واضحة لاختصاص علم الاجتماع، بل نظرت إليه في الغالب على أنه اختصاص مزعج، نقدي ويساري الهوى. وعندما نشر عالم الاجتماع الفرنسي « جون دوفينيو» كتابه عن قرية الشبيكة أواخر ستينات القرن الماضي استقبلت الدولة التونسية آنذاك الكتاب على مضض واعتبرته محاولة نقدية لمسارات التنمية طيلة العشرية وفشلها في تحقيق مطالب الناس في الأماكن النائية والمهمشة. وقد رفضت الدولة التونسية قبول تحويل محتوى الكتاب إلى فيلم على أراضيها واضطرّ المخرج إلى تصويرة في إحدى واحات الجزائر الصحراوية.

ما الذي يجعل بعض طلبة علم الاجتماع يفكرون في إقامة مشاريع خاصة أبعد ما يكون عن اختصاصهم؟ وما الذي يجعلهم يختارون مهنا مرتبطة بالجسد وبتجلياته؟

من المؤكد أن التكوين الذي تلقوه طيلة مسارهم الدراسي لم يكن جديرا بأن يجعلهم يفكرون في جعل علم الاجتماع منفذا مهنيا. ومن المؤكد أيضا أنهم لم يستطيعوا بناء هوية مهنية واضحة انطلاقا من الذي درسوه وحصلوا على إثره على ديبلوم عال. ومن المؤكد كذلك أن علم الاجتماع لديهم لا يعدو أن يكون سوى دروسا تُلقى عليهم ويُرجعون تفاصيلها يوم الامتحان. لا يوجد خلال المسار الدراسي في علم الاجتماع ما يجعلهم منفتحين على واقعهم ولا تجربة ميدانية ثرية يحصلون عليها. لقد بقوا تقريبا طيلة ثلاث سنوات لا يخرجون من الكلية إلا للعودة إلى منازلهم.

هذه إحدى معضلات الجامعة التونسية التي لم تستطع إلى الآن أن تبني جسور التواصل مع العالم الخارجي. يبقى دوما للأفراد وفق تطلعاتهم إمكانية أن يتولوا بمفردهم فتح القنوات مع المؤسسات التي تحتاج هذا الاختصاص. ولكن هذا مرتبط بشبكة العلاقات و بقدرة الفرد على الاندماج في المجتمع المدني الذي يتيح له فرصا للعمل و فرصا لتطوير قدراته النظرية و البحثية خارج ما تلقاه داخل أسوار الجامعة. وبالرغم من المحاولات العديدة التي جعلت من الاختصاص منفتحا على التحولات المهنية الجديدة إلا أن هيمنة الدرس وهيمنة الديبلوم حالت دون أن تكون لطلبة هذا الاختصاص القدرات الكافية للتمكن من تحولات سوق الشغل وطلباته الجديدة بما يعنيه من كفايات بحثية صارمة.

هناك في مستوى آخر انهمام بالجسد وبطلباته الملحّة. هناك عناية فائقة به وبأدقّ تفاصيله ولو وصل الأمر إلى الأظافر. ثقافة التجلّي هي الثقافة السائدة الآن. و هوية الأشخاص من قدرتهم على تبيان أنفسهم بكل الطرق ووضع أجسادهم تحت محكّ الاختبار التجميلي الذي لا حدود له، وهو ما جعل الجراحة التجميلية الآن تتقدّم بخطى ثابتة لتحتل أكثر

الاختصاصات الرائجة الآن. وعندما تفكر طالبة علم الاجتماع في مشروع يُعنى بالأظافر بعد تخرّجها فإنها بهذه الطريقة قد عبّرت وبكل وضوح عن تحولات كبيرة في بناء العلاقة بين المهنة وبين الاختصاص التعليمي. فالحدود بين المسألتين تتّجه نحو الانحلال وتكشف عن قدرة الفرد على اختيار مساره المهني بقطع النظر عن المحدّدات التي نعرفها ونتداولها. القفز بين الاختصاصات من أجل خوض تجربة مغايرة لا تثير استغراب جيل جديد من المتخرجين، بل أن قدرات الفرد تحضر عندما يستنبط تجربة لا علاقة لها بأي محددات يمكن أن تعيق ما يراه مناسبا له.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115