وتكشف هذه التسمية عن تضخيم كبير للموصوف وما يتبع ذلك من تضخيم للسلطة السياسية ومن إفرادها بحزام من الرموز تجعل منها سلطة مهابة وجديرة بنوع من القداسة. وتندرج مثل هذه التسميات وغيرها في العلاقة التي يبنيها العرب عموما مع أنساق السلطة وكيف يعيدون إنتاجها بمثل هذه الأوصاف.
دخلنا في تونس منذ 2011 في منطق جديد لتوزيع السلطة وتوزيع الألقاب فرضه دستور 2014 الذي تقريبا قسّم السلطة التنفيذية إلى رأسين وصنع سلطة قوية على غير العادة للبرلمان إلى درجة يمكن معها الحديث عن دولة البرلمان. ويأتي هذا التمشي في التقليص من سطوة رئاسة الجمهورية التي هيمنت على كل شيئ تقريبا مسنودة بقوة الحزب والإدارة والأمن.
كان التفكير متجها إلى أن تقسيم السلطة بين الرئاسات الثلاث سيمنح البرلمان على وجه الخصوص إمكانيات أكبر لتعديل المشهد السياسي بين الحكومة ورئاسة الجمهورية. ولكن تبين بعد البداية في تطبيق الدستور أننا تقريبا أمام ثلاث دول داخل دولة واحدة وتأكدت المسألة في مرات سابقة وتتأكد اليوم في ظل الأزمة السياسية بين الرئاسات. ولكن السؤال الذي يمكن طرحه هل أن ديموقراطية ناشئة مثل التي نراها ونعيشها الآن قادرة على استيعاب مثل هذا التضخم السياسي؟
من ملامح الانتقال الديموقراطي هو هذا التنازع بين الفردي الزعاماتي من جهة وبين المؤسساتي من جهة ثانية. في مراحل الاستبداد عموما يأتي الزعيم أو القائد قبل المؤسسة وفي غالب الأحيان تكون هذه الأخيرة في خدمة توجهاته ومصالحه. تأتي هنا مسائل مثل الرئاسة مدى الحياة التي يتمّ إقرارها في البرلمان أو الدعوة إلى استفتاء لتغيير فصول في الدستور لغايات مرتبطة بمواصلة ممارسة السلطة بشرعية جديدة. خلال الانتقال الديموقراطي هناك مقاربة تعتمد التقليص من هيمنة الفردي الزعاماتي لجعل ما هو مؤسساتي الأقرب إلى إدارة الشأن العام عبر الالتزام قدر الإمكان بالقواعد التي يقع الاتفاق حولها.
نعيش اليوم تنازعا مفرطا ومكشوفا للجميع بين ثلاث دول داخل دولة واحدة و كل ّ دولة تريد أن تثبت أنها الأقوى و أن بيدها تقريبا مفاتيح إدارة الشأن العام و الكلّ يقرأ الدستور و يؤوله بطريقته الخاصة في ظل غياب للمحكمة الدستورية. ويبدو أن في هذه الدول الثلاث هناك دولة البرلمان التي بيدها تقريبا مفاتيح عديدة ومنها المصادقة على الحكومة وتكوين الأحزاب التي تنشأ من خلال الكتل البرلمانية وداخل البرلمان يقع تقريبا تحديد جزء كبير من سياسات الدولة، هذا علاوة على تحديد القوانين التي تأخذ طريقها للمناقشة ومن ثمة المصادقة عليها و الإبقاء على قوانين أخرى لا تنسجم مع من بيده الأغلبية أو أنها لا تساعد مجموعات المصالح التي تضغط في اتجاه وأدها لغايات مرتبطة بالمصالح.
الدولة الثانية هي دولة الحكومة وهي في الغالب رهينة للتوازنات البرلمانية ولأمزجة الكتل وهذا ما يفسر إلى حدّ كبير تعاقب الحكومات بطريقة سوريالية. ودولة الحكومة هي الأضعف في الثالوث لأنها خاضعة للبرلمان ولرئاسة الجمهورية في مواضع وسياقات معينة. وفي الوقت التي يتطلب من الحكومة القيام بأداء جيد للخروج من الآزمة نجدها حاصلة بين فكي دولتين وما يستتبع ذلك من طاقة مهدورة في إحداث التوازنات المطلوبة.
وتبقى رئاسة الجمهورية الضلع الثالث من ثلاثية الدول والتي فقدت بالدستور الجديد الكثير مما كانت تتمتع به من هيبة ونفوذ. ويتساءل الناس عن دور الرئيس وفي ذهنهم ما يقارب من خمس عقود من العلاقة المتينة بينهم وبينها. وهذا يكشف عن عدم استيعاب أغلب المواطنين لصورة النظام السياسي الحالي الذي تسيطر عليه دولة البرلمان. و لهذا يتصرفون مع رئاسة الجمهورية كجهة قادرة على حلّ كل المآزق و لكن واقع الأمر غير ذلك.
هناك طلب اجتماعي لتغيير إدارة الشأن العام وبرز هذا الطلب في 2011 و لكن لم يكن الطلب تفتيت السلطة السياسية بهذه الطريقة. هناك من يقول أن النظام السياسي سليم و لكن الذهنية غير سليمة و غير متقبلة لقواعده مثلما كان منتظرا. و هذا في حدّ ذاته إشكال كبير لأنه في مراحل الانتقال الديموقراطي لسنا في حاجة فقط إلى الديموقراطية و لكن نحن في حاجة أكيدة إلى تطويع هذا الانتقال لذهنيات الناس التي لم تقبل أن تكون في دولة واحدة ثلاث دول في أغلب الأحيان متنازعة حول النفوذ.