«لم يعد هنالك إبداع واجتهاد في تونس»، بكل ثقة وجرأة قيلت هذه الجملة من «فنان قدير» في إحدى الإذاعات التونسية، جزم يعكس عقلية أو ذهنية عامّة لحرّاس الفكر والإبداع والاجتهاد.. من جيل ربما دأب على احتكار الحقيقة والنقد والخيال، يزكّي من يشاء وينبذ من يشاء.. يعرفون الفنون حقّ خيالها وفلسفتها وأصلها وفصلها.
في تونس، أينما وليت وجهك في أي اتجاه من اتجاهات علم الفن والآداب، إلا ووجدت كهنة يحرسون الإبداع من أحراره، مع أنّ الإبداع حرّ كالأفكار.. كهنة ينطقون بالحريّة ويتشدقون بقيودها، ويحترفون وأد أجنحتها، وبكل ثقة، يجزمون كثيرا ويؤكدون أكثر..
كهنة يحرسون الإبداع، ويضعون له القيود باسم النقد الفني أو الأدبي، كهنة سريعو الاشتعال، كلما هٌزّت طمأنينتهم أو سكينتهم إلا وانفجروا وعّاظا كرجال الدين المتعصبين، يحكمون ويحاكمون، تفضحهم الحرية سريعا، ويحرجهم الاجتهاد أكثر، ولا يرضون أبدا إلا إذا نظرت من زاويتهم الضيّقة، إلا إذا اتبعت منهجهم، إلا إذا ولجت إلى معابدهم وتلونت بطقوسهم.. إلا إذا أغمضت عينيك ونظرت بأعينهم وسمحت لقيودهم ومراجعهم وإيديولوجياتهم أن تفترش عقلك، إلا إذا حملت وإرثهم أو حتى اتجاهاتهم العقلية، أو نزاعاتهم النفسية.
يملكون مفاتيح الاجتهاد والإبداع وينصّبون أنفسهم حرّاس ألوية النقد..
وكأنّ قدر تونس المبدع أو المجتهد، المختلف عموما، أن يعيش في محنة دائمة، كمحنة المفّكر الإصلاحي الطاهر الحداد، ورفاقه من جماعة تحت السور. محنة تواصلت مع مختلف الأجيال، حتى غدت «متلازمة الطاهر الحداد»، الذي «سبق قومه بقرنين»، كما قال عنه الأديب العربي طه حسين. وهو يضع إصبعه على الجرح، فجرأة أفكار الحداد لم تستسغ من قبل حرّاس المعابد في مطلع القرن العشرين، وكان خير نموذج للمثقف الواعي بحقبته التاريخية، ولم يكن فردا من القطيع، ولم يقبل على عقله ثقافة القطيع.. وهو ما جعله يدفع الثمن غاليا.. أقله النبذ والوصم والتحقير والاستهزاء والتشويه..
ربما يُفتضح أمرهم سريعا لأنهم يرون الاختلاف والاجتهاد الفني أو الأدبي وجها من وجوه جيل جديد يسحب برويّة البساط من تحت النظم والبنى الكلاسيكية، هم يحتكرون الحقيقة، كل الحقيقة ..
قدّم منتوجا فنيا أو أدبيا مختلفا ستتفّه ببساطة أو ستحقّر، ولكن حاول أن تتبع سراطهم، توجهاتهم، طرقهم، نظرتهم للأمور، أو حاول أن تلتحق بمجموعاتهم فسيرحّب بك وتكون فردا من القطيع ببساطة.
فالفيلسوف الكندي الان أنّ أكّدا في كتابه نظام التفاهة أنّ التفاهة تقتات من مجال الثقافة بشكل جعل المثقّف العضوي يتراجع ويتآكل على حساب أشباه المثقفين، صنّاعها يمسكون الكتب ولا يفتحونها أبدا، وإن فتحوا بعضها، فإنهم غير منفتحون عن الآخر، عن الاجتهاد، عن التجديد، عن الإبداع، عن الخيال، عن المخيال.. يلقنون كلّ شيء بما يرونه هم الصواب..
البعض من وعّاظ الفن والأدب في تونس اليوم، يؤسسون لسلوكيات استعلائية، لا تنهض بالمفهوم الحقيقي للفن الحي النابض، فالثقافة ليست إلا دفترا مدلوليا لذات المثقف أو لذات الواعظ تتمظهر من خلال مفاهيمه السلوكية المتأصلة في إرثه، فالفنّ يمكن أن يكون أيضا صورة مغايرة للمثقفين، والأدب يمكن أن يكون صورة مغايرة للأدباء..
إنّ النرجسية أو تضخم الأنا للمثقف الواعظ يعتبر سلوكا نفسيا مزمنا وخطيرا، لا تكتفي من أن تأخذ حاجتها من المديح بل تحارب وترفض كل من يحاول نقدها ومزاحمتها طبعا..
لا ينتقدون الأفكار أبدا، ينتقدون بعضهم البعض حبّا في تقزيم الأخر وجريا وراء الأضواء، يسبحون في بحار نرجسيتهم ومحيطات عظمتهم، مهوسون بالشهرة والزعامة والألقاب..
لا أعرف متى يتذوقون روح دقلة «خرّيف»؟ متى يطارحون الدوعاجي تحت السور؟ متى يناصرون إمرأة الحداد؟ متى يتسلقون جبال الشابي ؟ متى يتحررون في نرجسية الأقفال؟