صارت مضرب الأمثال في عدم القدرة والعجز التّام على تنفيذ ما تتخذه من تشاريع ومن تراتيب يزخر بها الرائد الرّسمي للجمهورية التّونسيّة ولكنها تبقى حبرا على ورق.
وخير دليل على ما نقول ما نلاحظه من تسيّب ومن إهمال ومن لا مبالاة لدى المسؤولين ومن عدم حرص وغياب الصرامة والحزم على تطبيق ما اتّخذته الحكومة، وما أعلنته عن لسان رئيسها ووزير داخليتها ووزير صحّتها، من إجراءات صحيّة، من أهمّها ارتداء الكمّامات في الفضاءات العامّة والتقيّد بالتباعد الجسدي وحظر التجوّل من الثامنة مساء إلى الخامسة صباحا ومنع التّنقّل بين الولايات وغلق المقاهي على السّاعة الرّابعة مساء وعدم قبولها أكثر من 30 بالمائة من سعتها وتحجير الحفلات وحضور المباريات الرّياضيّة وتحديد عدد مشيعي الجنائز إلى ثلاثين شخصا، إلخ.
وبالإضافة إلى التّقاعس في السّهر على تطبيق البروتوكول الصّحّي، يلاحظ إهمال تامّ لمقتضيات حالة الطوارئ التي تعيش البلاد تحتها منذ تقريبا عشر سنوات والّتي وقع التمديد فيها أخيرا بالأمر الرئاسي عدد 164 لسنة 2020 المؤرخ في 23 ديسمبر 2020 لمدّة ستّة أشهر، تجري من 26 ديسمبر 2020 إلى غاية 23 جوان 2021. وللتذكير، فإنّ هذا الأمر الصادر عن رئيس الجمهوريّة، وغيره من الأوامر الرّئاسيّة الصادرة قبله في نفس الغرض، يستند على مقتضيات الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في26 جانفي 1978، المتعلّق بتنظيم حالة الطّوارئ الذي ينصّ، من جملة ما ينصّ عليه، على «منع جولان الاشخاص والعربات» و «تحجير الاجتماعات العامّة والتجمهر بالطريق العام.»
لكن رغم ما تمّ الإعلان عنه من الإجراءات الصحيّة المذكورة أعلاه ورغم إعلان حالة الطوارئ والتمديد فيها، فإنّ السلط العموميّة لم تر أيّ جرح في تنظيم تجمعات واجتماعات بالطريق العامّ آخرها التجمّع الشعبي الذي نظّمه الحزب الدّستوري الحرّ بمدينة سوسة يوم 21 فيفري 2021، والمظاهرتين اللّتين نظمتهما حركة النهضة من جهة، وحزب العمّال من جهة ثانية، يوم 27 فيفري 2021 المنصرم بالعاصمة.
وممّا يدعو للدّهشة والاستغراب حقّا أنّ المشاركين في مظاهرة سوسة ومظاهرتي العاصمة وفدوا أفواجا وجماعات من جهات مختلفة من جهات الجمهوريّة في حافلات وسيّارات سخّرتها الأحزاب المنظّمة، هذا رغم منع التنقّل بين الجهات السّاري المفعول منذ شهر نوفمبر الفارط ورغم تحجير التجمهر بالطريق العام بمقتضى حالة الطّوارئ.
وممّا يزيد الطّين بلّة، أنّ منظّمي بعض هذه المظاهرات العشوائيّة والخارقة للإجراءات الصحّيّة السّاريّة المفعول ولحالة الطّوارئ أشرف عليها مسؤولون سامون في الدولة وفي الأحزاب، كان ينتظر منهم أن يكونوا القدوة والمثل الأعلى لعموم الشّعب، من ذلك أنّ الدّاعي والمنظّم لمظاهرة حركة النّهضة والخطيب فيها ليس إلّا الشّخصيّة الثّانيّة في الدّولة، أي رئيس مجلس نوّاب الشّعب، وهذا منتهى العبث واللامبالاة بما يتهدّد البلاد من تفشّي الفيروس من جديد على صعيد واسع.
ولا نستثني من هذه التصرّفات الّتي تمسّ من الأمن الصّحّي للمواطنين ما يأتيه بانتظام رئيس الجمهوريّة، وهو المسؤول الأوّل في الدّولة عن الأمن القومي، من «زيارات فجئيّة» لأحياء بالعاصمة وضواحيها أو لمدن وقرى خارج العاصمة للالتحام مع شعبه الذي يريد، تتحوّل كلّها إلى تجمّع بالطّريق العام.
ومن الغرائب أنّ السيّد رئيس الحكومة صرّح، من مدينة باجة، في تعليق على مسيرتي حركة النهضة وحزب العمّال السبت في العاصمة، إنّ كلّ طرف في تونس اليوم لديه الحرية في التنظّم والتعبير بالطريقة التي يراها صالحة مع احترام المسائل الأمنية. والسيد رئيس الحكومة، الذي هو أيضا وزير الداخلية، سهى على أنّ حريّة الإنسان تقف عند المسّ من حقوق الآخرين. وغضّ النّظر عن التّرسانة الهامّة الّتي يتمتّع بها في الوقت الرّاهن لمنع مثل هذه المظاهرات وقائيا سواء بمقتضى البروتوكول الصحّي أو بمقتضى حالة الطّوارئ أو حتّى بمقتضى القانون عدد 4 لسنة 1969 المؤرخ في 24 جانفي 1969 والمتعلق بالاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والمظاهرات والتّجمهر.
إزاء هذا التسيّب والغياب الكلّي للّشجاعة على منع مثل هذه المظاهرات والتّجمّعات التي تفتقد لأدنى شروط الوقاية، رغم هشاشة الوضع الصّحّي العام، وخطر سرعة انتشار العدوى وربّما تفشّي السلالات الجديدة لفيروس كورونا ، قد ترتفع فجأة، ومن جديد، الأرقام المتعلقة بجائحة كورونا وقد تجابه المؤسّسات الاستشفائيّة حالة جديدة من الهلع والذّعر ومن تجاوز
طاقة الاستيعاب كما حذّرت من ذلك الأستاذة الدكتورة ريم عبد الملك عندما أطلقت صيحة فزع لم تجد من مجيب حول الخطر الداهم الذي يهّدد القطاع الصحي بسبب مظاهرات 27 فيفري ومن آلام و أحزان ومصائب تهدد المرضى وعائلاتهم وكما تأسّفت عن ذلك الأستاذة الدّكتورة نصاف بن عليّة وكما أكّد ذلك الأستاذ الدّكتور الهاشمي الوزير، خاصّة أن بوادر حملة التّلقيح مازالت بعيدة المدى، باعتبار أن بلدنا يحتلّ، وللأسف الشديد، ذيل قائمة البلدان المسجّلة للحصول على التّلاقيح سواء عبر منظومة كوفاكس أو عبر الشراءات المباشرة من المخابر المنتجة للتّلاقيح.
فإلى متى سيتواصل استهتار السّلط العموميّة ؟ وإلى متى سيدفع المواطن التونسي ثمن هذا الاستهتار ؟ والى متى سنواصل احتساب عدد مرضانا وعدد موتانا بسب انعدام المسؤولية وعدم القدرة على تنفيد الإجراءات والتراتيب الساريّة المفعول ؟
بقلم: الأستاذ رافع
بن عاشور