من سطوة القانون ومجلات العقاب؟ هل يمكن للألوان القزحية أن تعطي لبدلات الأمنيين شيئا من الحياة؟
ما الذي حدث؟
يحدث أن تتغير أشكال الاحتجاج وتتغير معها مضامينها العديدة. المحتجون في العالم بأسره يفكون أسر الأشكال التقليدية للاحتجاج ويرسمون رؤيتهم الجديدة للمُناهضة. لقد تحررت الأشكال الاحتجاجية من هيمنة الإيديولوجيا ومن هيمنة الأحزاب ومن سطوة الزعامات. يتجه الاحتجاج إلى أن يكون فردانيا حتى ولو تقوده جماعات. إن التقاء إرادات فردية هو الذي يجعل الاحتجاج يتسرب من رغبة فردية، من مزاج فردي ومن ذات تريد أن تعيش كما يحلو لها متنصلة من إكراهات الجماعة.
الجسد جزء يحضر بعنفوان في هذه الأشكال التعبيرية الجديدة للاحتجاج، تريد الذات المحتجة أن تحوّل جسدها من جسد جماعي يشتغل لفائدة الآخرين ويرتمي رمزيا في أحضانهم إلى جسد مهموم بتوتراته باحث عن توازناته وسعيد بإنجازاته. ولهذا دخل الجسد بتعبيرات متعددة في الاقتصاد الرمزي للثورات والاحتجاجات. وكي تُسمع الآخرين صوتك عليك أن تكون قادرا على إبهارهم بمشهد، أن تعطي للعين متسعا من الفرجة، لا تعني الكلمات بقدر ما تعنيه الصُور.
المحتجون المتدافعون وراء زعاماتهم حاملين نصوصا ثورية صوتا وكتابة، هذه الصيغة لم تعد الوحيدة من ضمن فعل الاحتجاج. لقد تحول الفعل الاحتجاجي إلى فاعلين جُدد غير المناضلين في أحزابهم أو في نقاباتهم أو في تياراتهم الفكرية والأيديولوجية. انتقل الفعل الاحتجاجي إلى مجموعات شبابية متمحورة حول قضية بعينها قد تكون كرة القدم وقد تكون المثلية وقد تكون البيئة وقد تكون أقليات الثقافة وقد تكون الماريخوانا. هذه المجموعات الشبابية التي تقود الحركات الاحتجاجية الجديدة ليست في حاجة إلى الكلام، هي في حاجة أكبر إلى الإبهار، إلى استنباط غير المألوف في المضمون وفي الشكل.
حدث هذا التحوّل عندما انتقلنا إلى زوايا أخرى في قراءة الواقع وفي عيشه أيضا، القضايا الهوياتية مهمّة بنفس درجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية وبنفس الانتقال من طلبات الجماعة إلى طلبات الفرد. الطلبات الجديدة محورها الفرد المتحرّر الذي يريد أن يختار طرق عيشه وأسلوب حياته وطرق تفكيره. وهذا يطهر تحرّر من نوع جديد، فالتحرر من التخلف أو من الاستعمار أو من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي ليس هو العنوان الوحيد للتحرّر. هناك عناوين جديدة لمضمون الحرية وأهمّ عنوان هو أن يكون الفرد متحرّرا في اختيار ما يناسبه من أسلوب حياة وهذا ما ينطبق على الحريات الفردية وهي الحريات التي بدأت في التوسع ونجحت في أن تشدّ إليها الأنظار.
لا يمكن فهم ما يحدث دون أن نعطي انتباها للفردانية ولرهاناتها الجديدة. الفردانية وجيلها الجديد من الشباب ومن الأفكار والمضامين وهي ليست بالضرورة فردانية اجتماعية بقدر ما هي فردانية مفتوحة على كل الطلبات والرغبات. وهذا يعني إضعاف الطلب الاجتماعي وتحويله إلى طلب متمركز حول الذات وحول اهتماماتها الجديدة. ما يلفت الانتباه في هذه الاهتمامات أنها صادمة لأنها خرجت عن المنظومة الاقتصادية والاجتماعية التي هيمنت طيلة القرن الماضي وصادمة أيضا من حيث الأسلوب و الشكل و يصبح أحمر الشفاه مثلا عنصرا احتجاجيا و تُستعمل الشماريخ في الملاعب تعبيرا عن غضب المناصرين من حوكمة الملاعب و حوكمة أسلوب عيش فئة من الشباب.
يطلب الشباب المتظاهر والمحتجّ تغيير قانون معاقبة مستهلكي الماريخوانا والمعروف في تونس بالقانون 52 الشهير. هذا الطلب يخرج عن منظومة الطلب المعتاد وهو بالمناسبة ليس طلبا لفئة شبابية دون غيرها، إنه يكاد يكون طلبا عاما مع أتساع كبير لدوائر مستهلكي هذه المادة من الشباب. هنا يظهر الاحتجاج كتعبير عن عدم تلاؤم واضح بين قانون لا يستجيب لتوسع الظاهرة، كما لا يستجيب للمفارقة الحاصلة بين شباب يعتبر أن استهلاك الماريخوانا أمر عادي وأحد الحقوق الفردية وبين قانون لا زال يعتبر الأمر من الجرائم الموجبة للعقوبات المؤلمة.
لا يمكننا النظر للظواهر المستجدة بمقولات لا تستطيع فهم ما يحصل لأنها مقولات قد استهلكت حيويتها في ظواهر سابقة. تجديد مقولات التحليل هي من أهم متطلبات المرحلة وهنا تأتي القيمة التي نعطيها دوما للعلوم الإنسانية و الاجتماعية.