وعندما تتحول كرة القدم إلى طلب اجتماعي فهذا يعني أنها لا تقلّ قيمة عن طلب التشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية. ولكن كونها طلب اجتماعي فإن الرهان عليها كبير وثقيل بنتائجه المختلفة.
التحول الكبير الذي طرأ على هذه اللعبة هو أنه عندما بدأ المناصرون في التعامل مع النادي على أنه جزء من حياتهم وأنهم معنيون بكل تفاصيله في الملعب وخارج الملعب. لم تعد النتائج وحدها تعنيهم، مسائل مثل حوكمة النادي وكيفية تسييره وموازناته المالية وخياراته الكروية وغيرها أصبحت اليوم مجالا للمعارضة وللاحتجاج. الثقافة التشاركية هي التي جعلت المناصرين يضغطون في سبيل أن يكون لهم موطئ قدم في النادي. هذه الثقافة التشاركية غير معزولة عن الذي حصل من تحوّل في المؤسسات الصناعية وغيرها التي أدمجت العنصر البشري في أساليب حوكمتها وانتهجت الأسلوب التشاركي كمؤشر على نجاعتها.
لا نستغرب أن تنتفض مدينة بأكملها من أجل الحق في مركب رياضي وفي تجهيزات رياضية مكتملة، ولا نستغرب أن يطلب المناصرون ويضغطون في سبيل الحصول على تقارير مفصلة حول الموازنات المالية اناديهم. ولا نستبعد وقوع احتجاجات كبيرة لا من أجل التشغيل والتنمية بل من أجل تغيير منظومة النادي.
ما الذي وقع حتى تصبح كرة القدم مطلبا اجتماعيا؟
عندما ظهرت كرة القدم في نهايات القرن التاسع عشر كانت لعبة من أجل الدفع بأبناء العائلات الأرستقراطية إلى تعلم القواعد والانضباط والتضحية ولهذا كانت لعبة تُمارس في الجامعات والمدارس الكبرى. ومثلت اللعبة بشكل ما طريقا للتأهيل السياسي لأبناء هذه العائلات، وهو تأهيل للمنافسة وللجدارة وللتضحية.
وحين تحولت كرة القدم إلى لعبة العمال في المصانع في نهايات كل أسبوع مع بدايات القرن العشرين فهذا يعني أن اللعبة أصبحت جزءا من المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الصاعدة. وقد تمّ التعامل مع كرة القدم تقريبا طيلة سنوات عديدة من القرن الماضي على أنها لعبة أفيونية تُبعد الجماهير عن قضاياها الفعلية وتبعدهم عن النضالات الحقيقية. ولهذا كانت كرة القدم على هامش الصراعات الاجتماعية ولم تكن جزءا من الطلب الاجتماعي. أنتجت هذه الوضعية تباعدا بين المناصرين ونواديهم، المهمّ عندهم يبقى تحقيق النتائج وإحراز البطولات. لم يكن المناصرون يعرفون تاريخ النادي بكل تفاصيله ولا يعرفون من هو رئيس النادي ولا يهتمون بحوكمته وبثقافته التسييرية ولم تكن ثقافة المشاركة هي الثقافة السائدة آنذاك.
طرأ مع الألفية الجديدة تحوّل كبير في التنظيمات والمؤسسات وتسللت إليها المقاربات التشاركية وأصبحت مؤشرات الرقابة والتقييم أكثر حضورا وبرزت المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة وانتقلت السلطة داخلها من سلطة عمودية إلى أخرى أفقية، وأصبح الجميع معنيا بحياة المؤسسة. اقتربت نوادي كرة القدم من هذه الثقافة، لأنها وجدت نفسها هي الأخرى ضمن مجال تنافسي قوي مدعوم برهانات اقتصادية وسياسية ورمزية. وانتقلت العلاقة مع النادي من ناد يلعب كرة القدم إلى ناد يعبّر عن هوية متعدّدة الأبعاد. ويدخل الدفاع عن النادي والولوج إلى أدق تفاصيله تحديا تقوده مجموعات الألتراس التي أدمجت نواديها ضمن تساؤلات الهوية ومتطلباتها، ودفعت إلى أن تكون خزانا هوياتيا لا ينضب.
الحاجة إلى الهويات هي التي دفعت بشباب الأولتراس إلى أن يجعل من تجربته مع نوادي كرة القدم على وجه الخصوص تجربة تنشئة اجتماعية فقدها في مؤسسات تنشئة أخرى. وتمكنت كرة القدم من الاستحواذ على نصيبها من زمن الهويّات وأدرك كل من له علاقة باللعبة أنها بشكل ما تختزل الوجود البشري ومن هنا جاء هذا الاهتمام الكوني بها.
إذا لم تكن كرة القدم هي كل المجتمع، فإن كلّ المجتمع مختزل في كرة القدم...