وكان من المفروض أن تكون الذكرى العاشرة لأي حدث مميز فرصة هامة للاحتفاء وكذلك لتقييم ما تم انجازه وفتح آفاق جديدة أمام التجربة السياسية لأي بلد من البلدان .فالعشرية فترة زمنية كافية للقيام بعمل تقييمي وضبط التصورات المستقبلية .
إلا أن هذه المناسبة وعلى خلاف السنوات السابقة مرّت اليوم في ظروف باهتة غابت عنها الأجواء الاحتفالية التي ميزت هذه الأيام في السابق .فقد غيمت الغيوم والإحباط على سماء الثورة التونسية مما ساهم في تراجع الفرحة والأمل في قدرتنا على إنجاح تجربتنا وبناء عقد اجتماعي دامج للمهمشين الذين تزايد عددهم في السنوات الأخيرة .
وفي قراءة تقييم التونسيين للثورة لابد لنا من الخروج من الحديث العام والتحاليل النظرية التي على أهميتها لا تمس ولا تأخذ بعين الاعتبار نبض الشارع وخلجاته حول وقع الأحداث التي نعيشها .
وللحديث عن هذا التقييم والقراءة الشعبية للثورة في هذا المقال سنعتمد على عملية سبر الآراء الهامة التي قامت بها مؤسسة سيغما كونساي حول عشر سنوات من الثورة وقراءة التونسيين لها .
إن نتائج هذه الدراسة وسبر الآراء ثرية وتحتوي على جوانب كثيرة ومهمة .وسنتوقف في هذا المقال على أربع مسائل أساسية توقفت عندها الدراسة بإطناب وقدمت فيها أرقاما مهمة وأساسية .
المسألة الأولى تهم تقييم التونسيين للوضع الحالي والمسار الذي قطعته الثورة بعد عشرية كاملة من اندلاعها .وهنا يأتي رد التونسيين وتقييمهم قويا لان %58 من المستجوبين يعتبرون أن الثورة فشلت .وإذا أضفنا إلى هذه النسبة %30 من العينة التي تعتبر أن الثورة لم تحقق شيئا يذكر فإننا نصل إلى نسبة %90 من العينة والتي تمثل الشريحة الكبرى من التونسيين والتي لها تقييم سلبي للمسار الثوري الذي انطلق منذ عشر سنوات خلت .ويفسر التونسيون هذا الفشل بعجز المسار الثوري عن تحقيق المطالب التي رفعتها الثورة .وهنا تصل النسبة إلى %91 من مجموع العينة .
هذا العجز وعدم قدرة الثورة على تحقيق المطالب التي رفعها الشباب ذات شتاء منذ عشر سنوات خلت دفع %67 من العينة إلى التأكيد على أن الأوضاع اليوم تدهورت مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة .
المسألة الثانية والهامة التي يجب التوقف عندها من خلال هذا الاستبيان تهم أسباب انتكاسة المسار الثوري .وتشير آراء التونسيين إلى عديد القضايا التي كانت وراء العجز وحالة الإحباط السائدة اليوم .ولعل في أول هذه الأسباب يمكن أن نشير إلى الوضع الاقتصادي وعجز مختلف الحكومات عن تغييره نحو الأفضل .فنسبة كبيرة من التونسيين قرابة %85 من العينة،تشير إلى أن الثورة كان لها تأثير سلبي على الأوضاع الاقتصادية .
إلى جانب الأوضاع الاقتصادية يشكل الوضع الاجتماعي أحد مراكز الوهن الرئيسية للثورة فقرابة %83 من التونسيين يعتبرون أن تأثير الثورة على الأوضاع الاجتماعية كان سلبيا.
كما يشير التونسيون من خلال هذه العينية إلى مظاهر خلل أخرى هامة ساهمت في تراجع مخزون الثقة في المسار الثوري .ومن هذه المسائل الهامة تنامي الفساد حيث يعتبر %76 من المستجوبين أن الثورة صاحبها تفش كبير للفساد الإداري والمالي .
ومن ضمن الأسباب التي يشير إليها التونسيون لتفسير هذا الفشل يمكن أن نذكر حالة البنية التحتية في بلادنا حيث يعتبر %88 من المستجوبين أن الثورة لم تحدث تغييرا كبيرا في هذا المجال لتعرف بلادنا في هذا المجال تراجعا كبيرا .
كما تشير الدراسة إلى الجهات المهمشة حيث تؤكد شريحة كبيرة من المستجوبين (%84) إلى أن الثورة لم تساهم بطريقة فعلية في تحسين الأوضاع في هذه الجهات مما يفسر تنامي الحركات الاجتماعية هناك وحالة الاحتقان التي تعيشها أغلب الجهات والتي تنامت في الأشهر الأخيرة .
كما أشارت هذه الدراسة إلى أسباب كثيرة أخرى والتي تفسر انحسار الثورة وانتكاساتها في أعين الكثير من التونسيين.والى جانب المآخذ التي اشرنا اليها يمكن لنا ان نضيف الكثير من المآخذ الأخرى ومن ضمنها تنامي حالة الفوضى اثر الثورة مع تراجع الدولة وتفكك مؤسساتها (%86 من المستجوبين ).
وهذه الفوضى في رأي التونسيين ناتجة عن تراجع الأمن وتنامي الجريمة (%63 من المستجوبين ) .
ويمكن أن نقف في هذا المقال على جملة الأسباب والقضايا التي اتت عليها هذه الدراسة الهامة .لكننا نريد الإشارة الى نتيجة هامة تهم مسألة التسامح في المجتمع حيث تؤكد نتائج الاستبيان إلى أن %78 من الشريحة تعتبر أن المخزون المجتمعي من التسامح قد تراجع بعد الثورة .
المسألة الثالثة التي نريد الشارة إليها والتي تبرز في هذا الاستبيان تخص النتائج الايجابية التي أتت بها الثورة . وتعتبر هذه المسألة هامة حيث أن التقييم لم يكن سوداويا .وبالرغم من النقائص والمآخذ التي كانت وراء انتكاسة الثورة فان التونسيين في غالبيتهم يشيرون إلى مجالات ايجابية فتحها المسار الثوري في بلادنا .وأغلب هذه المسائل تخص المجال السياسي الذي عرف تطورات كبرى منذ بداية الثورة وانفتاحا مهما يؤكد عليه اغلب التونسيين .
ولعل أحد أهم الايجابيات التي يشير اليها التونسيون تخص حرية التعبير حيث يؤكد %88 من المستجوبين أنها عرفت تحسنا وتطورا كبيرا اثر الثورة.
ومن جملة الايجابيات التي يؤكد عليها التونسيون مشاركة المرأة في المجال السياسي حيث تشير أغلبية كبيرة (%77 من المستجوبين) أنها تحسنت نحو الأفضل منذ الثورة .
النتيجة الرابعة التي نريد التوقف عندها من هذا الاستبيان تهم رؤية التونسيين للمستقبل . إن حالة الإحباط والأزمات المتعددة التي نعيشها اليوم كان يمكن أن تقود إلى الكثير من التشاؤم وفقدان الثقة في المستقبل .إلا أن النتائج التي أتت بها هذه الدراسة تبدو متوازنة وتشير إلى أن نسبة مهمة من الثقة في الغد ومن القدرة على تحسين الأوضاع .
فـ%40 من المستجوبين لهم الثقة في أن الأوضاع الاقتصادية ستتغير نحو الأحسن خلال الخمس سنوات القادمة .كما أن %44 من العينة ترى نفس الشيء على المستوى الاجتماعي ومتفائلة بقدرتنا على تحسين الوضع الاجتماعي .
ولعل السؤال الأهم هو الأخير والذي يشير إلى الثقة في المستقبل بالرغم من المخاطر فـ%62 من العينة ترفض الهجرة والهروب وتفضل البقاء من اجل المساهمة في تغيير الواقع وتحسينه .
لهذه الدراسة أهمية كبرى .فالنتائج التي وصلت إليها تعطينا صورة أكثر صدقا عن تقييم التونسيين للمسار الثوري بعد عشر سنوات من انطلاقه.
ففي حين يشير الكثير من السياسيين والمحللين إلى حالة الإحباط والعجز والفشل التي خلفها المسار الثوري منذ بدايته فان موقف التونسيين يبدو أكثر توازنا وعقلانية من خلال هذا الاستبيان .فالتونسيون وإن أكدوا على المصاعب والأزمات التي يعرفها هذا المسار وبصفة خاصة في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية ، لا ينسون الجوانب الايجابية خاصة في المجال السياسي .ولعل الأهم في هذا الاستبيان أن نسبة كبيرة منهم لم تفقد الأمل في قدرتنا على إنجاح تجربتنا وتغيير أوضاعنا نحو الأفضل .
وهذه النتائج تطرح مسؤولية كبيرة على القوى السياسية والاجتماعية والتي لا يجب أن تخذل التونسيين والتي يجب عليها أن تترجم هذا البصيص من الأمل إلى برامج ورؤى وسياسات تفتح مجالا جديدا لتجربتنا السياسية .