الدّولة، الانتماءات التقليدية وضعف التوازنات

هل هي المرّة الأولى التي يحدث فيها ما حدث في الجنوب التونسي هذه الأيام؟ قطعا لا، الصراعات التي تحركها الانتماءات الجهوية والقبلية والعروشية

وحتى العائلية لا تزال حاضرة بيننا. هي علامة على أن هذه الانتماءات لا تزال تشتغل كمورد رمزي ومادي في فض النزاعات بعيدا عن الدولة ونواميسها وإجراءاتها البيروقراطية.
كان مسار الدولة التونسية منذ الاستقلال البحث عن التوازنات الممكنة في مناطق لا تكون فيها حاضرة بقوة. تكلف الدولة أعوانها السياسيين والإداريين والأمنيين حين يحدث شك في أن الوضع قد ينفجر في كل لحظة. وغالبا ما تصل الدولة عير أعوانها المحليين إلى إحداث ترضيات وقتية فيها الكثير من الإجراءات الزبونية، لأن الغاية كانت ولا تزال الإبقاء على توازنات هشة قد يطول أمدها ولكن قابلة للانفجار في كل لحظة. فالأراضي التي تسمى اشتراكية وعندما يحدث نزاع حول استغلالها أو حول ملكيتها، هذا النزاع لا يقع حلّه قضائيا عبر المحكمة العقارية بل يقع تناوله عبر لجان التصرف الجهوية والمجالس الجهوية. هنا يصبح فض النزاع سياسيا وليس قانونيا، وهنا تتشكل حول هذا الصنف من النزاعات رهانات سياسية قد تُبقي في غالب الأحيان الوضع على ما هو عليه في رغبة في صناعة التوازنات السياسية التي تحتاجها أي سلطة سياسية.
تفيد الأحداث أن الذي حصل بين أهالي دوز من ولاية قبلي وأهالي بني خداش من ولاية مدنين مرتبط بالتنازع على الثروة. ولكن الثروة التي يقع التنازع حولها ليست مائية وليست حول المرعى أيضا بل حول الريع النفطي الموعود. وتفيد المعطيات أن شركة نفطية قدمت إلى المنطقة وقامت بالتنقيب على البترول ولكن يبدو أنها اكتشفت مياها سخنة. انسحبت الشركة من الميدان وتركت الناس هناك يستغلون منبع الماء.
تظهر إشاعة في الأثناء تقول إن هناك استثمارات قادمة في المنطقة وأن الريع النفطي سيكون حاضرا لينقذ الجميع من الخصاصة وأن من يسيطر على المجال يسيطر على الثروة، ومن هنا اندلع الصراع. الإشاعة جزء من السياق العام، بل هي إحدى محركاته الأساسية وما حصل في الكامور مؤخرا يعطي مصداقية لمحتوى الاشاعة. هنا يحرّك الفاعلون مواردهم الممكنة، وفي هذه الحالة يبقى المورد القبلي والعروشي أفضلهم وأكثرهم جدوى لإدارة مسارات السيطرة على المجال. علينا أن نأخذ في الاعتبار ضعف تأثير المجتمع المدني وضعف حضور الدولة فيما يسمى سوسيولوجيا الحدود وخطوط التماس.
إن التماس الانتماء القبلي أو العروشي أو العائلي ليس حكرا على منطقة دون أخرى ليس سمة من سمات المناطق الداخلية ريفية كانت أو حتى صحراوية. في قلب المدن الكبرى في تونس وفي أحيائها الحزامية تنشب معارك بشكل متواتر حول مسائل مختلفة يقع فيها استثمار هذه الموارد إذا اعتبرنا أن هؤلاء الوافدين إلى المدن الكبرى يحملون معهم انتماءاتهم ويبقونها نائمة إلى حين الحاجة إليها. لهذه الانتماءات المختلفة استعمالات بفرضها السياق، وما على الفاعلين الاجتماعيين إلى تجديدها ورعايتها وصيانتها.
يمكننا استخلاص النقاط التالية من الذي حدث بين أهالي دوز وأهالي بني خداش من صراع دام خلف قتيلا وعددا كبيرا من الجرحى، ولكن خاّف أيضا تساؤلات حول العلاقة بين المركز والأطراف وحول أليات الدولة لبناء التوازنات الهشة.
- هناك أزمة دولة فيما يتعلق بالأراضي الاشتراكية التي تخفي تحتها مشكلات تاريخية ورمزية ومادية شائكة، الدولة غير راغبة إلى حدّ الان في تحويل هذا الصنف من النزاعات إلى سياقه القانوني عبر المحكمة العقارية و تريد إبقاءه ضمن السياق السياسي ليتسنى لها صنع التوازنات الاجتماعية التي تحتاجها. والصراع الحاصل في مناطق مشابهة وفي سياقات تاريخية مشابهة أيضا مرتبط بانسداد الآفاق أمام وضع افتكت فيه الدولة أراضي القبائل واحتكرتها مُعتبرة أن لا وجود قانوني لمثل هذا التنظيم الاجتماعي.
- تبحث الدولة عموما على التوازنات غير المُكلفة وهو ما يدفعها إلى تبني منطق زبوني في التعامل مع هذه التوازنات، ويمكن أن تلتجأ إلى المنطق الأمني أن استعصى عليها ذلك
- هناك تعايش بين الموارد الحداثية والموارد التقليدية والفاعلون الاجتماعيون يستعملون بدرجات متفاوتة ما هو أصلح لهم وأكثره توافقا مع السياق
- الدولة الوطنية هي التي أرست المورد الجهوي والعائلي وأعطته شرعية سياسية واشتغلت به عندما كانت في حاجة إلى ذلك.
- منطق الفعل القبلي أو العروشي ليس حكرا على الأرياف أو على الدواخل، إنه يعيش بيننا أيضا في المدن الكبرى وفي أحزمتها وفي كثير من الأحيان تنشب صراعات دامية يقع التمترس فيها خاف انتماءات هوياتية قديمة وقع جلبها في سياق الهجرات الداخلية.
- ما حصل في المنطقة الفاصلة بين دوز وبني خداش كشف ضعف الدولة في استشعار الخطر والتنبه إليه ووضع الأساليب القادرة على تجاوز الاشكال، إذ التخوم دوما مجال خصب للصراع أيضا.
- آليات التعديل الذاتي في هذه المناطق ضعيفة، ويمكن أن يكون ذلك عبر المجتمع المدني الذي يمكن أن يقوم بدور الوساطة. ولكن ضعف إدراكه للأزمات الخافتة التي يمكن أن تندلع في كل وقت جعله غير قادر عموما على التدخل الإيجابي.
- تحضر الموارد القبلية والعروشية وبقوة عندما تضعف الموارد الأخرى المدنية والمواطنية والقانونية.
- ما حصُل في المنطقة التي تسمى « العين السخونة» ليس إلا تعبيرا عن قرف أصاب الناس هناك من هيمنة الدولة على أراض يعتبرونها ملكية لهم. هناك احتجاج على ما يعتبرونه انتزاعا من طرف الدولة وحان الوقت كي تبتكر حلولا لهذا المأزق.

المأزق الماثل أمام الدولة الآن هو أنها غير راغبة في حلّ إشكال ما تسميه الدولة نفسها بالأراضي الاشتراكية. هي غير قابلة بتسمية مثل تسمية الأراضي القبلية وغير معترفة بها قانونيا وسياسيا لأنها وبكل بساطة لا تقرّ بوجود القبيلة كتنظيم اجتماعي. الفاعلون الاجتماعيون الذين يتقاتلون منذ أيام حول إعادة التموقع يرفعون راية القبيلة ليس حبّا في القبيلة وإنما هي المورد الوحيد الماثل أمامهم لتحقيق رهاناتهم التي يختلط بداخلها ما هو رمزي وتاريخي واقتصادي وسياسي مرتبط بسياق البحث عن الريع النفطي الافتراضي في حين كانت اغلب صراعاتهم في الماضي تحوم حول الماء و المرعى.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115