أحيانا، يتغيّر الشعار ويقول المحتجّون: «أعطني تنميّة أو ماء أشرب أو دارا أسكن أو منحة أو تسجيلا إضافيا في الجامعة... وإلا سوف أعطّل الحياة وأقطع الطرق. مؤخّرا في الكامور، اقتحم الغاضبون من الشباب العتيّ المناطق العسكريّة في تطاوين وهاجموا الأمن ورموا الجيش حجارة وسبّا وأغلقوا «فانات» النفط طيلة أشهر عدّة... ماذا يريد شعب الكامور؟ يريد شغلا وأجورا وقروضا وبستنة. يريد «حقّه» في التنميّة. التنميّة عند أهل الكامور هي هبات من السماء تسقط. هي مال عموميّ يوزّع. هي شغل بلا شغل... مثل انتفاضة الكامور، أراها في كلّ بقعة. في العديد من المناطق، أرى «الشعب يريد». يطالب بنصيبه من الثروة. في تونس، في كلّ يوم، هناك احتجاج وفوضى. الكلّ ينتفض. لا أحد ينظر ويتدبّر. الكلّ يريد رزقا بلا جهد، بلا إنتاج، بلا مقابل...
رأيت، في القصرين، صورة لبعض الشباب العاطلين وكانوا، على ما يبدو، أصحاب شهائد عليا. (وكأنّ الشهائد العليا دليل على التألّق، على المعرفة) انتصب هؤلاء في الشارع الكبير صفّا واحدا ومدّوا وجوههم وتدلّت فوق رؤوسهم حبال معقودة. في أسفل الصورة، كتبوا بحروف غليظة: «إما الشغل وإلا سوف ننتحر». لا أدري إن لبّت السلطات طلبهم. لعلّها فعلت. لا أدري، إن هم انتحروا وأنجزوا ما وعدوا. لا أظنّهم فعلوا. مثل شباب القصرين أراه في عديد المناطق الأخرى. يعتقد حملة الشهائد أنّ الدولة مدعوّة إلى مدّهم بشغل، إلى منحهم أجورا تليق بما كسبوا. الكلّ يعلم أنّ جلّ أصحاب الشهائد العليا لم يكسبوا.
* * *
منذ الثورة، أصبحت تونس حلبة، إسطبلا كبيرا. الكلّ في عراك، في ثور، في تناطح. إنّه جنون عامّ، مشترك. إنّه الشلل يقعد البلاد والدولة. هل في تونس اليوم حياة ووجود؟ هل في البلاد أصلا دولة؟ هو العدم تامّاما وهو شامل. هو العجز مطلق. قطع رأس الدولة، مع الثورة. بترت أيديها. هي كلّ يوم تسحل...
متى يدرك الناس في الجنوب وفي الشمال أن الحكومة هذه والقادمة هي في عجز ولن تقدر على الفعل وهذه فوضى مستفحلة وهذا أكثر من عجز قائم وقروض مثقلة؟ متى يدرك الشعب أنّ الدولة أفلست بما كان من أكواخ شغل ومن تسيّب ومن سوء تصرّف؟ انتهت الدولة يا شعب ولن تقدر اليوم ولا الغد على توفير الشغل، على انجاز التنميّة.
كثيرا ما تعد الدولة بالمال وبالتنميّة لهذه الجهة. قد تعد هذا الفريق أو ذاك السلك بالزيادة في الأجور، ببناء مستشفى أو كلّيّة. قد تقول الدولة ما تشاء وتعد بما تشاء وهي تعلم أنّها عاجزة. منذ سنين والدولة تكذب على الناس. ماذا عساها تفعل وهذا اضطراب يأكل الأخضر واليابس وهذه نار في تونس تشتعل؟ تكذب الدولة لأنّ أهلها في عجز، لا يعرفون سنن الحكم ولا كيف تسيير دواليب الدولة...
بما أنها أتت من زور ومن كذب، فقدت الحكومات المتتاليّة كلّ صدق في القول وكلّ إخلاص في العمل. لا أحد اليوم يثق في الدولة. لا أحد يصدّق ما تمضيه من عهود. لا أحد يصغي إلى ما تقوله. بين الناس والدولة، حصلت قطيعة بيّنة...
هذه قطيعة محمودة، مبشّرة بعلاقة مختلفة. لعلّها قطيعة منقذة. لمّا ييأس الناس من الدولة، لمّا يعرضوا عنها وينتهوا، ربّما، يومها، يعاودهم الرشد. قد يعود كلّ إلى نفسه يسأل، يحتسب، يتدبّر. لمّا يغلق الناس أبواب الدولة الربّانيّة، سوف يفتحون، ضرورة، أبوابا أخرى. سوف يلجؤون إلى أنفسهم. ينتهون من الشكوى ومن التسوّل. من الاضطراب وقطع الطرق. عندها، يرجعون النظر في ما حولهم من دنيا وشؤون. ها هم قسرا في سعي. يعملون العقل. يجتهدون لإيجاد الحلول والسبل...
هل في ما أرى من عفس للدولة ومن سحل لهياكلها هناك بصيص من الأمل؟ هل في ما نحياه اليوم من فوضى ومن زعزعة للأسس، قد نرى تغييرا في الرؤى وتغييرا في المنهج؟ هل سوف تنتهي عندنا الدولة الربّانيّة وقد ضاقت يدها وانحسر دورها في ظلّ عجز ثقيل؟ لمّا تعجز الدولة وتنكسر، هل ينهض الفرد ليأخذ بأمره، ليحمل نفسه؟ لا أعلم ما سوف غدا يحصل...
اليوم أعلم أن ليس من دور الدولة توفير الشغل وليس من مهامّها بناء المساكن وتحقيق مشاغل الناس وتلبيّة ما لديهم من رغبة ونزوة. ما كان دور الدولة توفير القوت للخلق ولا السهر على ما هم فيه من بطالة، من عوز. ما كانت التنميّة شأن من أولويّات الدولة. ما كانت مهمّة أهل الحكم خدمة الشعب وتحقيق غاياته. على خلاف ما يقوله الشارع وتلوكه الصحف، الدولة هي منظّمة أنانيّة. هي «عصابة» همّها حماية ذاتها وخدمة مصالحها الآنيّة والمرتقبة. لا غاية للسياسيين (ونفس الشأن لرجال الدين) غير الكسب والغنم. غير الذود عن مصالحهم. كذلك، يفعل الرؤساء والوزراء ومن لفّ لفّهم في تونس وفي أمصار الدنيا. كذلك يسعى رؤساء الأحزاب والمنظّمات النقابيّة ومن كان في الحكم وفي المعارضة. ذاك ما نراه في كلّ الأصقاع. ذاك ما تحياه كلّ الملل...
* * *
دور الدولة هو أوّلا حماية البلد من كلّ خطر داهم أو عدوّ متربّص. هو توفير الأمن للناس جميعا والسعي إلى التعديل وفتح أبواب الممكن. هو الدفع بالشعب إلى النظر، إلى التدبّر، إلى العيش في حرّيّة. هو ترك الناس يحملون أنفسهم. يديرون شؤونهم... الدولة الذكيّة هي تلك التي خفّ ظلّها في الأرض. قصيرة اليد. قليلة العدد. لا أحد يراها، ينظر فيها أو ينتظر منها معونة أو مساعدة. دور الدولة رعاية القوانين وتطبقيها على الناس جميعا، بحزم، بلا تمييز...
أمّا تدخّلها في حياة الخلق اليوميّة وتوفير الخبز لهذا والمسكن للآخر والأخذ بيد ذاك السلك ومعاضدة الآخر، فهذا ليس شأنها بل مثل هذا التدخّل في حياة الناس هو غير محمود بل وخيم التبعات، سيّء الأثر... إنّ تدخّلها في شؤون الناس فيه نكران لقدراتهم. مسّ من حرّيّتهم. إفساد لسير المجتمع. لأنّ الدولة سيئة الإنفاق بالطبع، فاسدة التصرّف بالفعل، فتدخّلها في الاقتصاد مسيء، مفلس. لأنّ تدخّلها في قضايا المجتمع مخلّ، مريب، يجب أن تكفّ الدولة على التدخّل. يجب أن نعيدها قسرا إلى مرابضها، إلى مكاتبها حتّّى تنتهي فقد انتهى زمن الدولة الربّانيّة. زمن الخلافة والخليف.
يبقى التعليم والعدل والصحّة وكذلك البيئة، فهذه لما لها من أهمّية ومن أثر على العيش المشترك، يجب أن تبقى من صلاحيّات الدولة. ليست من صلاحيّات الدولة وحدها بل على الخواصّ التدخّل فيها والدفع بها. تحت نظر السلط ورعايتها، يجب الأخذ بالقطاعات هذه وتنظيمها والإنفاق فيها بما يكفي ويضمن جدواها وحسن سيرها. الدولة الرشيدة هي التي تجتهد كي توفّر للنشء تعليما ممكّنا وللعموم صحّة ناجعة وللناس عدلا لا انحياز فيه ولا تسلّط. أمّا سوى ذلك من الشؤون الأخرى، فعلى الدولة تركها للخواص وهم أدرى بها وسعيهم فيها أجدى وأنجع...
* * *
البعض من أهلنا، مفتوح العينين، أراه يحلم. يريد إقامة الخلافة والعود إلى السلف الصالح. الكثير من أهلنا يحلمون بخليفة رسول الله بيننا يتجوّل، يحكم. يتفقّد الرعيّة. يقيم العدل. يحمي الأرملة ويطعم المسكين. يتابع عيش العبد وسير البغال. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر...
هل هذا حقّا ما كان يفعله الخلفاء في العصور الغابرة؟ هل يهتمّ الخليفة حقّا بعيش الناس؟ هل يرعى الخليفة الرعيّة ويطعم الفقير والمعوز؟ هل تعنيه بغال العراق وتونس؟ لا أعتقد. كلّ هذا قصص للصغار تحكى. هذه سرديّات رثّة. دولة الخلافة هي، ككلّ حكم بشريّ، سلطة أنانيّة. همّها الذود عن نفسها وذويها. همّها التفرّد بالجاه وبالملك. عاش خلفاء المسلمين في تناحر مستمرّ. بعضهم، من أجل الحكم، قتّلوا الشعب والخصوم وسفكوا دمه. يوم توفّيّ رسول الله، حصل بين الصحابة جدال مطوّل وبين المهاجرين والأنصار صراع مرير. ظلّ الرسول ميّتا في بيته ثلاثة أيّام قضّاها رفاقه في خصام، في تنازع. أيّامها، كادت تسحب السيوف وتقطع الرؤوس...
يجب أن ننتهي من الخلافة ومن الخرافة ومن الرئيس الفذّ ومن الزعيم الملهم. انتهى ذاك الزمن. نحن اليوم لسنا في حاجة إلى خليفة، إلى قائد، إلى زعيم يرعى الأمّة. نحن في حاجة إلى أنفسنا. إلى العود إلى أنفسنا حتّى تحمل كلّ نفس نفسها، حتّى ننهض ونغالب الدنيا ونصارع ما كان من صعاب وشوائب. حان الوقت لنكبر، لنبلغ الرشد، ليتولّى كلّ شأنه. حان الوقت حتّى يصبح كلّ فرد دولة. كلّ إنسان حامي حمى ذاته. يجب أن نقتنع أنّنا قادرون وأنّ لا وجود لأحد في الأرض يحملك، يمدّ لك العون، يوفّر لك الرزق والشغل والتنميّة. لا أحد، في الدنيا، يهمّه أمرك وعيشك. فخذ بأمرك ولا تنتظر أحدا... في تونس، لنا مثل شعبيّ معبّر. يقول: «لو كان الأخ يحبّ أخاه لما بكى أحد.» فكفانا كذبا وليشدّ كلّ أزره وليتوكّل كلّ على نفسه وهو خير المتوكّلين..