لماذا يحتاج الرؤساء الى كتابة مذكراتهم ؟ أوباما مثلا

شكل صدور الجزء الأول من مذكرات الرئيس الأمريكي أوباما حدثا كبيرا طغى على أخبار الجائحة الصحية التي أصبحت الشغل الشاغل منذ انطلاقها، للسياسيين وقادة الدول وصناع الرأي .

وقد أعدت دار النشر الأمريكية crown - التي نشرت الكتاب - العدّة كي تجعل من صدور هذه المذكرات حدثا عالميا . فقد تم طبع 3 ملايين نسخة من الطبعة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية .
وفي العادة فإن ترجمة الكتاب إلى لغات أجنبية تأتي بعد أشهر من صدور النسخة الأصلية باللغة الانقليزية .إلا أن الكتب ذات الاهتمام العالمي أو ما اسميه (le livre-monde) فتصدر في ترجمات إلى عديد اللغات في العالم في نفس اليوم لتجعل من نشر الكتاب حدثا عالميا .
وجعلت أهمية الكاتب وتأثير اختياراته السياسية كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية على العالم جعلت من صدور الجزء الأول من يومياته حدثا عالميا.
فقد تم نشر الكتاب في نفس الوقت في 22 بلدا على مستوى العالم .وقد تم طبع مليون نسخة في ألمانيا و200000 ألف نسخة في فرنسا عند دار النشر الباريسية فايار Fayard.
ويعتقد الملاحظون أن مبيعات هذا الكتاب ستتجاوز الرقم القياسي غير المسبوق والذي حققته ميشال أوباما زوجة الرئيس أوباما حيث تجاوزت مبيعات مذكراتها 7 ملايين نسخة في كل أنحاء العالم .
وتشير التقديرات إلى أن حقوق التأليف ستمكن الرئيس السابق من الحصول على 65 مليون دولار لذا فانه يمكننا أن نأخذ فكرة على حجم المعاملات المالية التي سيتمكن من تحقيقها نشر هذا الكتاب والتي ستتجاوز نصف المليار دولا ر.
إن صدور هذا الكتاب والاهتمام العالمي الذي أثاره يشير إلى بروز نوع أدبي جديد برز منذ سنوات وهو يهم مذكرات رجال السياسية وقادة الدول .وقد برز هذا النوع في عديد البلدان الديمقراطية وحقق نجاحات كبيرة وأرقام مبيعات هامة مما جعل دور النشر تهتم بهذا النوع الأدبي وتحاول دفع المسؤولين السياسيين الى كتابة مذكراتهم وتشجعهم على اصدراها في مؤلفات وكتب .
ويمكن أن نشير إلى عديد الكتب في هذا المجال لعل أهمها مساهمات الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند (François Hollande) حيث اصدر مباشرة عند خروجه من الحكم في 2018 مذكراته في كتاب اسماه «les leçons du pouvoir « أو «دروس السلطة» .وقد عرف هذا الكتاب نجاحا كبيرا بالرغم من التراجع الكبير لشعبية هولاند مما دفعه الى عدم الترشح لعهدة ثانية في الانتخابات الفرنسية .
وفد دفع نجاح هذا الكتاب عديد الملاحظين إلى التساؤل عن النوايا الحقيقية لهولاند من وراء إصداره لهذا الكتاب وعن إمكانية عودته إلى المجال السياسي بعد هذا الاهتمام .
وقد أعاد فرنسوا هولاند الكرة في فيفري 2020 حيث أصدر كتابا موجها للأطفال أسماه «leur république» أو «جمهوريتهم» وحاول فيه تفسير المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية والنظام السياسي في فرنسا .
وقد لاقى هذا الكتاب نفس النجاح وقام فرنسوا هولاند بجولة كبيرة في أهم المدن الفرنسية للترويج لكتابه ممّا أثار الشائعات من جديد حول اعداده للعودة إلى الساحة السياسية .
وفي نفس هذا الجنس الأدبي يمكن أن نشير كذلك إلى صدور مذكرات jean Pierre Chevènement جان بيار شوفنمان القائد السابق في الحزب الاشتراكي والوزير في عديد الحكومات الفرنسية تحت عنوان «qui veut risquer sa vie la sauvera» أو «من يريد المخاطرة بحياته ،يحميها «عن دار النشر الباريسية Robert Laffont» .ولئن عرف شوفنمان بكتاباته العديدة والكتب التي نشرها في تاريخه النضالي الحافل حول عديد القضايا السياسية فإنه لأول مرة يتجه إلى كتابة مذكراته والغوص في حياته الشخصية .وقد لاقى هذا الكتاب كذلك الكثير من الاهتمام لان الرجل كانت له مواقف هامة ومبدئية دفعته في عديد المرات إلى الاستقالة من مناصبه السياسية من اجل الدفاع عن مبادئه . ولعل أحد أهم مواقفه تخص قراره الاستقالة من منصبه كوزير دفاع في الحكومة الفرنسية يوم 28 جانفي 1991 لرفضه مبدأ مشاركة الجيش الفرنسي في حرب الخليج .
وبالرغم من تطور هذا الجنس الأدبي في اكبر البلدان الديمقراطية الا إنه بقي مغمورا في البلدان العربية وقد خض قلة من السياسيين هذه التجربة الممتعة والمهمة . وقد حاولت المشاركة في هذا الجنس الأدبي الجديد عند خروجي من حكومة السيد المهدي جمعة وإصداري لكتاب بعنوان «chroniques d’un ministre de transition» عن دار سراس للنشر سنة 2016 والذي تمت ترجمته إلى العربي وصدر عن دار النشر محمد علي / التنوير تحت عنوان «يوميات وزير في المرحلة الانتقالية «سنة 2017.
وحاولت في هذا الكتاب العودة على هذه التجربة وعلى أهم الدروس المستخلصة .
تشارك هذه الإصدارات لمسؤولين سياسيين سابقين في مستويات عالية في جنس أدبي جديد يؤرخ لفترات تاريخية وقد لقي هذا الجنس الجديد الكثير من الاهتمام عند القراء لتصبح هذه الكتب والإصدارات من النجاحات الكبرى في المبيعات .
ولفهم أسباب هذا النجاح لهذا الجنس الجديد يمكن أن أشير إلى ثلاثة أسباب أساسية . السبب الأول يهم طبيعة الكتابة والسرد . وقد ابتعد أغلب الكتاب والساسة عن الكتابة الخاصة التي تعودوا عليها في التقارير الرسمية التي صاغوها في السابق أو التي صاغتها لهم مؤسسات الدولة.فتعتمد هذه الكتابات على سردية مختلفة قريبة من الكتابة الروائية والتي تحتوي على جانب كبير من التشويق تجعل القراءة سهلة وممتعة . وحتى وإن لم تكن لهؤلاء الساسة والمسؤولين القدرة على استعمال هذا النوع من الكتابة الأدبية والتي فيها الكثير من الذاتية فإن دور النشر توفر لهم كتابا محترفين وقادرين على صياغة أفكارهم وعلى تقديم المعونة لهم في هذا المجال .
المسألة الثانية التي تفسر نجاح هذا الجنس الأدبي فتعود إلى إرادة الناس العاديين إلى الولوج إلى مسالك السلطة وفهم طرق عملها من خلال هذه القراءات ومطالعة هذا النوع من الكتب .
كما يعود نجاح هذا النوع من الأدب والسردية إلى محاولة الناس التعرف على خفايا الأشياء خاصة في العلاقات الدولة . ويمكنهم من خلال هذه القراءات والمطالعات التعرف على بعض هذه الأسرار والخفايا.
ولئن لاقت هذه الكتابات وهذا الجنس الأدبي اهتمام القراء فإن ذلك اخذ كذلك يستهوي الكثير من المسؤولين السياسيين وآخرهم الرئيس اوباما .ويحتاج الرؤساء والساسة إلى كتابة مذكراتهم لسببين أساسيين على الأقل . السبب الأول هو حاجة هؤلاء المسؤولين لإعطاء روايتهم للتاريخ والأحداث .فخلال ممارستهم لمهامهم يمنعهم واجب التحفظ من إعطاء روايتهم للأحداث . وبالتالي تكون كتابة التاريخ وحتى الذي يساهمون في صنعه خارجة عنهم ويقوم به آخرون . وهذه الكتابة الخارجة عن نطاقهم لا تنصفهم . ومن هنا تعطيهم كتابة مذكراتهم الفرصة لكتابة التاريخ وصياغته من منظورهم .
السبب الثاني الذي دفع السياسيين إلى دخول مغامرة الكتابة الذاتية محاولة التفكير النقدي في تجاربهم وممارستهم السباقة . فهذه الكتابة لا يمكن أن تكون من نوع المديح والثناء الكبير . ولابد لها أن تأخذ مسافة كبيرة عن هذه التجربة وتعترف إذا لزم الأمر وتقر بالأخطاء والنواقص وسبل التجاوز .
إلا أن هذه الكتابات على غرار كتاب اوباما الأخير تشكو من نقص هام وهو اقتصارها على تجربة الكاتب السياسية ولا تضعها في إطارها العام . فمذكرات الرئيس هولاند كما هو الشأن بالنسبة لمذكرات اوباما لم تتعرض إلى المشكلة الأهم والمعضلة الكبرى وهي أزمة الأنظمة الديمقراطية ووهنها وعجزها مما عجل بظهور الحركات الشعبوية .
بالرغم من بعض الشوائب والنواقص فان تجربة السياسيين وظهور الجنس الأدبي الجديد الذي يعتمد على المذكرات هامة وتضيف الكثير الى التجربة الديمقراطية . فإلى جانب كون هذه الشهادات مساهمة هامة في كتابة التاريخ فإنها تمكن القارئ والجمهور العريض من الاطلاع على خفايا الأمور وعديد الأسرار وبالتالي تساهم في دفع الشفافية الضرورية في الأنظمة الديمقراطية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115