هي مهمّة يسيرة. لا شقاء فيها ولا تعب. الخبز في تونس بخس الثمن ولنا في الحيّ عطّار صغير يبيع الخبز ومواد غذائية مختلفة. من ذاك العطّار، أشتري كلّ يوم خبزا. أحيانا، عند العطّار، ألتقي بجارتي. دون تردّد، في الظهيرة، ألبس ثيابي وأمشي إلى العطّار أشتري. أحبّ لقاء جارتي في حانوت يوسف.
في يوم مضى، في ظهيرة محرقة، ذهبت أشتري خبزا، كالعادة. لا أحد غيري يمشي إلى العطّار يشتري خبزا. أحيانا، أعود إلى البيت متأخّرا فلا ألقى في البيت خبزا. يصادف أن أتغيّب النهار كلّه. يومها، يحصل في البيت اضطراب. يبقى الكلّ في حيرة. يسأل عنّي ومتى أعود ومتى اشتري الخبز؟ في ذاك اليوم، في الظهيرة، كالعادة، ذهبت إلى العطّار راجيّا أن ألقى جارتي. لم ألق جارتي. ها هو يوسف كعادته واقفا يلبّي. ها هو كعادته يستمع إلى آيات بيّنات من الذكر. يرتّلها في التلفاز شيخ بصير، مسنّ. في صوته أنين وتضرّع. ازدهرت صناعة الترتيل في هذا الزمن. كثرت القنوات الدينيّة في بلاد العرب. يقول أصحاب الحوانيت: «ترتيل القرآن في المحلاتّ جالب للبركة.» في تونس، في الصباح وفي العشيّة، تسمع في الدكاكين وفي الأسواق وفي المقاهي آيات من الذكر. لا أحد تراه خاشعا لما جاء في السور من ذكر. لا أحد يتبيّن ما قاله الشيخ المرتّل. لا أحد يهتمّ. الكلّ في شأنه يسعى. يرتّل القرآن في الحوانيت فقط لجلب البركة. ورغم أنّ البركة انقطعت في تونس منذ سنين، ترى الكلّ يرجون أن تنزل عليه من السماء بركة...
في يوم ما في الظهيرة، لم ألق في حانوت يوسف جارتي ولم أسمع من التلفاز ترتيلا حزينا. سمعت صخبا وضجيجا. في الحانوت، جدال كثير وأصوات ترتفع وأخرى تنخفض. في الباب، تجمّع خلق. ستّة أفراد أو أكثر... أنا فضوليّ وأحبّ الاطّلاع على ما يجري من قول ومن صخب. أريد أن أرى ما يحصل بين الناس من جدل وأن أعلم ما كان في الدهماء من عراك وشتيمة. بسماع البشر، أعرف ما يحملونه من رأي وأتبيّن ما يضمرونه من بغضاء وشرّ. عند كلّ ازدحام وكلّما رأيت تجمّعا، أقتربت. أنظر في المجتمعين وأسمع ما هم فيه من هرج ومرج. في صخب الدهماء،
أحيانا، هناك تعلّم. مع العراك، ترى وجه الخلق كما هو دون زيف وتعرف ما كان في الناس من طبع ومن همجيّة.
هذه المرّة، أنا مضطر إلى سماع الجدل القائم. كنت في الحانوت لأشتري خبزا. يجب أن أشتري خبزا. كان الكلام عاليّا بفرنسيّة مكسّرة، مرّة، وبدارجة معطّبة، مرّات أخرى. هل هناك أجنبيّ في الحانوت؟ اقتربت لأرى ما يجري. في سمعي بعض الثقل. يجب أن أقترب أكثر. في الحانوت، هناك شجار بين يوسف العطّار وشابّ أسود، عتيّ. كان يوسف يقول وكلّه فخر وفي وجهه ازدراء وحمرة: «أنا أبيض. أنا أبيض. أمّا أنت، فأنت «كحلوش»، لونك أسود. لونك فحم». كان يوسف في غيظ وجاء كلامه خليطا بين فرنسيّة مضطربة ودارجة سوقيّة. لا يحسن يوسف الكلام بالفرنسيّة ولا بالدارجة. لا أظنّه يفهم ما يقوله خصمه. كان الشابّ الأسود في غضب. في صوته توتّر. يقول في فرنسيّة مهذّبة: «كلّنا أفارقة ولا فرق بين الأبيض والأسود. أنت أبيض ولكنّك لا تتبيّن ولا تفهم. أظنّك لم تدخل يوما إلى المدرسة... في بلادي الكوت دي فوار، عديد التونسيين يعملون ولا أحد يمنعهم ولا أحد يشتمهم. أنت لا تعرف الدنيا وما حصل فيها من تغيّر. أنت لم تدخل يوما إلى المدرسة.» يعود يوسف ليؤكّد من جديد للشاب الأسود وللحاضرين أنّه أبيض البشرة. أنّه أفضل منه. ها هو يشدّ بأصابعه جلد ذراعه ويدعو خصمه أن ينظر، أن يرى كيف هو أبيض، بهيّ...
تابعت ما جرى. استمعت إلى الخصمين. نظرت في ما يقوله الأسود والأبيض. شدّتني حميّة. انطلقت في فرنسيّة بهيّة أساند الشابّ الأسود. ألعن الجهلة والمتخلّفين وكل من في قلبه عنصريّة. أبيّن ليوسف وللناس الحاضرين، ولا أظنّهم أدركوا قولي، أنّنا جميعا بشر. أنّنا كلّنا أفارقة وأنّ الألوان لا تعني شيئا ولا فرق بين أسود وأبيض إلا بالعمل الصالح، إلا بما كان من تربيّة وحسن أخلاق ومعاملة... إلى غير ذلك من الكلام العامّ ذاك الذي يقال في المواقف الرسميّة ولا تراه في الحياة اليوميّة. كنت أنظر في وجوه الحاضرين وأتبيّن مدى اهتمامهم، بما قلت من خطاب. في ما أرى، كلّ الحاضرين انبهروا بي. وددت لو كانت جارتي بيننا وسمعت ما أقول من قول ثقيل. لو رأتني كيف أخيط الكلام وأنقش الجمل لأعجبت بيّ أكثر ولجدّدت معها الموعد...
لم يفهم يوسف العطّار ما قلت. لم يتبيّن إن كنت له مناصرا أو كنت له خصما. أظنّه أعجب بما قلت من كلام مسترسل بفرنسيّة طليقة. في عينيّ يوسف، رأيت إعجابا بما أتيت من خطاب بهيّ، بلغة فرنسيّة. يحبّ الناس من يتكلّم اللغة الفرنسيّة. يهاب الناس من جاء كلامه مبهما، عصيّا. كلّ قول مبهم هو ولا شكّ قول ثقيل. هو كلام عميق لا يدركه إلّا الراسخون في العلم. أعدت النظر في يوسف. أظنّه اقتنع بما قلت. ها هو في صمت، يطأطئ رأسه.
غادر الشابّ الأسود الحانوت. تفرّق الجمع. عمّ الحانوت سكون. استحسن الحاضرون ما قلت من كلام. أعجب يوسف بيّ. أظنّه اقتنع أنّي أستاذ كبير. بجملتين أو أكثر، أفحمته. أظهرت الحقّ وأزهقت الباطل. إن الباطل كان زهوقا... منذ تلك الحادثة، أصبحت عند يوسف مبجّلا، موقّرا. أصبح يحيّيني وفي فمه ابتسامة بريئة. أحيانا، يلاطفني. يقول لي قولا جميلا. دوما يبيعني خبزا أحمر، شهيّا.
هذا التبجيل المفاجئ رأيته في مناسبات أخرى. أحيانا، للضرورة، ألقاني أخاطب الناس بالفرنسيّة. أحبّ التكلّم بالفرنسيّة والفرنسيّة، عندي، لغة وطنيّة وليست، كما يقول الأعراب والشعبويّون، لغة الاستعمار. أجنبيّة. أحيانا، كي أفحم الحاضرين، إذا كان الحاضرون من كبار القوم، من أصحاب الوظائف السميّة، ألجأ إلى اللغة الفرنسيّة. قبل الكلام، أتهيأ. أنتقي كلماتي. أعدّ من المفردات ما كان غامضا، عصيّا. أتوكّل وأقول في الناس قولا مسترسلا، ثقيلا. لا يكمن الثقل في ما كان من عمق في الفكر ومن طرافة في التحليل، بل فقط في ما ضمّنت الجمل من مفردات فيها عسر وغموض. أحيانا، تراني أهزّ وأنفض وأعلم علم اليقين أن القوم، جلّهم، لم يدركوا ممّا قلت شيئا. رغم أنّي لم آت طحنا، لم أقل شيئا مفيدا، أرى في أعين المتلقّين إجلالا وتبجيلا. كذلك هو التواصل بين الناس أحيانا كثيرة. كذلك هو الكلام طلاسم وسحر. في غموضه، غمض للفؤاد وتعجيز. أفليس الإعجاز أصله تعجيز؟