منبــــر: في عقد مجتمعي يعيد لنا مشروعية الحلم والحب

عندما يتمزّق السلم الإجتماعي أو يتآكل قد تكون الطبيعة البشرية في أسوء تجلياتها، ويكون البشر أشبه بكائنات متوحشة لا تستطيع أن تعيش إلا بإقصاء

بعضها البعض، ونفي إرادة الآخر وسلبه حقوقه وفرض قوانين ترى بعين واحدة من ثقب صغير، هو ثقب الأقوى بينهم.

وسرعان ما حوّلت هذه الكائنات البشرية وطنها إلى غابة حيث حرب الكل ضد الكل، فيسود التطرّف والاحتقان، ولا راية تعلو بعد ذلك إلا راية الهمجية، وقد تخمد وتيرة الاحتقان قليلا لكنها سرعان ما تطفو أمام أي أزمة جديدة..

يقول المستعرب الياباني نوبواكي نوتوهارا، في كتابه «العرب: وجهة نظر يابانية» الذي نُشر سنة 2003، في مجتمع كمجتمعنا -المجتمع الياباني- نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العربي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد، كما أنّ الدين أهم ما يتم تعليمه في البلدان العربية، لكنه لم يمنع الفساد وتدني قيمة الاحترام..
في كتابه هذا رسم وحدّد جوانب الشخصية العربية بمنظاره وثقافته ومرجعيته، قد يكون من الحيف أن نقول أنّ هنالك مجتمعا عربيا واحدا، بل هنالك مجتمعات متنوعة متعدّدة، ولكل شعب حياته وشخصيته أو حتى شخصياته، لكن لعلّ ما نستطيع أن نستخلصه أن ما ذكره المؤلف يمكن أن ينطبق في كثير من جوانبه على المجتمع التونسي..
فالمؤلف الذي أمضى حوالي 40 عاما متنقلا بين مختلف المدن العربية يعتبر أنّ الماسكين بزمام السلطة في تلك البقاع لا يعاملون الناس بجدية.. لأنهم لا يملكون أيّ مشروع لأوطانهم.. في حين أنّ المجتمع مشغول بفكرة النمط الواحد، على غرار الحاكم الواحد، لذلك يحاول الناس أن يوحدوا أفكارهم وملابسهم، وفي تونس إن تغيّر الحاكم الواحد فإنّ النمط الواحد إرث متخلّف مازال سائدا في العقليات والسلوكيات..

ويعتبر نوبواكي نوتوهارا أنّ العرب مورست عليهم العنصرية، ومع ذلك فهم يمارسونها ضد بعضهم البعض، يقمعون بعضهم البعض ويحاربون الإختلاف ويقول الكاتب «لكي نفهم سلوك الإنسان العربي العادي، علينا أن ننتبه دوما لمفهومي الحلال والحرام». ويتساءل لماذا لا يستفيدون من تجاربهم؟ لماذا يكررون أخطاءهم؟
كما يعتبر الكاتب أنّ الاختناق والتوتر الشديد ميزة عامة لهذه المجتمعات، حيث تملأ شوارعها العدوانية وشتى أنواع العنف.. ويضيف «حين يدمر العرب الممتلكات العامة، فهم يعتقدون أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة، لا ممتلكاتهم!» هذا المواطن الذي لم يتملّك مواطنته بعد «يقرن بين الأملاك العامة والسلطة، وهو نفسيا في لاوعيه على الأقل ينتقم سلبيا من السلطة القمعية فيدمر وطنه بانتقامه».

قد لا نستطيع أن نبني حضارة العلم والعمل في تونس إلا عندما نتصالح مع الماضي، بكل أخطائه وتعثراته، نفهمه ونعترف أنه لا يمكن أن نعانق المستقبل ونحن مكبّلين بجثث الماضي وخرافاته وخزعبلاته وشنفرياته، لا يمكن أن تُبنى حضارة تحترم إنسانية الإنسان دون أن نزيل الغبار عن كُتبنا القديمة، ونراجع حقائقنا الثابتة، ونعترف أننا بشر مجالنا نسبي وأن لا عزاء إلا للعلم والعمل…

قد لا تحتاج تونس إلى معجزة حتى ترمم ذاتها وتكون أكثر قوّة وعدلا وخلقا، فقط تحتاج إلى بوصلة ومشروع مجتمعي يحرّك كل القوى نحوه ويوحّد كل الطاقات لخلق الثروة ودفع النمو، ولن يكون ذلك إلا بالإيمان بقيمة العمل وإرساء عقد اجتماعي يحوّل التونسي إلى مواطن يستخلص النظام لا الفوضى..
اليوم نحتاج إلى مشروع مجتمعي مشترك.. بعيد عن أي إيديولوجيا عن أي مذهب، أو أي حزب أو زمرة لا تؤمن إلا بلونها وصوتها، مشروع قريب من التنوّع والتعدّد، مشروع لا ينبذ الإختلاف، مشروع مجتمعي يعيد لنا مشروعية الحلم، أيّ حلم يرمّم إنسانيتنا في هذا الوطن.. يجعلنا مواطنين في حضرة وطن لا تموت فيه الأحلام ولا يختنق فيه الخلق والإبتكار ..

مشروع مجتمعي يعبّد الطريق لأمان سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وقيمي، مشروع يحمينا من أنفسنا ومن أنانيتنا، يقينا من التطرّف والتناحر، ويعيد الحبّ لقلوبنا المتآكلة، ويجعله هو المبدأ لا الكراهية..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115