الجامعة التونسية: مؤسسة نصف الدّوام

الجامعة التونسية تنتخب هياكلها البيداغوجية في ممارسة ديموقراطية تبدأ بانتخاب رؤساء الأقسام ثم المجالس العلمية

ورؤساء المؤسسات لتنتهي بانتخاب رئيس الجامعة. وككل مسار انتخابي هناك برامج وتعهدات وهناك ولاءات واصطفافات منها ما هو سياسي وإيديولوجي ونقابي وغيرها من الولاءات التي يمكن أن ينحصر مضمونها في مجرد الحصول على جدول تدريس مناسب أو ترقية منتظرة أو غيرها من المكاسب التي يمكن أن توزع هنا وهناك.
لا يمكن ان تخفى علينا هذه الممارسة الديموقراطية في انتخاب الهياكل البيداغوجية عمق الأزمة التي وصلت إليها الجامعة التونسية وهي أزمة تعيشها مؤسسات تقديم الخدمات مثل المؤسسة الصحية ومؤسسة النقل وغيرها. الجامعة التونسية غير قادرة الآن على تحديد هويتها. فهل هي مؤسسة تعليم أم مؤسسة تكوين؟ وهل هي مؤسسة لإنتاج الفكر أم أنها مؤسسة لإدارة سيل من الطلبة يتوافدون عليها كل سنة جامعية؟ وهل أن الجامعة مؤسسة إعادة إنتاج السلطة المعرفية تحت عباءة العلاقة بين الشيح والمريد؟
هذا جزء من الأسئلة التي يمكن أن تساعدنا على فهم ما يدور داخل اسوارها المغلقة في كثير من الأحيان وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل هل أن الجامعة التونسية مؤسسة دينية أم مؤسسة تعليمية؟ وهل هي مع ذلك كله مؤسسة محافظة غير قادرة على فهم التحولات المختلفة واشتراطاتها الجديدة؟ لنختم في الأخير بالسؤال التالي: هل مازلنا نحتاج إلى جامعة بهذه الصورة وبهذا الأسلوب في التعاطي مع الأشياء؟

هناك مؤشرات عديدة تضعنا أمام عمق أزمة الجامعة التونسية اليوم. أهم هذه المؤشرات هي هجران الطلبة عموما للفضاءات الجامعية كفضاء للتحصيل العلمي وكفضاء لإنتاج المعنى. فإلى حدود التسعينات من القرن الماضي كان الطلبة يرابطون في أجزائهم الجامعية من أجل ممارسة السياسة. لم تعد الجامعة فضاء جاذبا للأساتذة وللطلبة. ينتهي الزمن الجامعي مع الساعات الأولى للزوال ولذلك فهي تشتغل بأقل من نصف طاقتها وبنصف مواردها المختلفة أو أقل. ولهذا فهي مؤسسة نصف الدّوام.
بعيدا عن التصنيفات العالمية التي تضع جامعات العالم ضمن موقعها من مؤشرات الجودة ومؤشرات التأثير في المحيط الوطني والدولي، يمكننا إدراك أن جامعاتنا في أغلبها هي مؤسسات دينية في عمقها ترفض في الغالب الجدل الفكري ولا تسهم بشكل ملموس في إنتاج الأفكار التي يكون أثرها واضحا في المجتمع بل على العكس من ذلك تتولى فقط إعادة ترتيب معلومات و تقديمها للطلبة في مشهد تقليدي يُمتحن فيه الطلبة مرتين أو أكثر في السنة. المشهد العام الذي تمرّ به تونس. الجامعة التونسية باختصاصاتها المتعددة لم تكن قائدة في المحطات التي مررنا بها خلال مرحلة الانتقال الديموقراطي ولم تكن أصلا معنية بذلك.
في الانتقالات الكبرى كان للجامعة دور الريادة. حركة ماي 1968 التي غيرت وجه فرنسا وكانت حركة مليئة بالتساؤلات المجتمعية كانت حركة نابعة من الجامعة. حركات التحرر في العالم هي الأخرى وجدت في الجامعات حاضنة فكرية وسياسية ونضالية لا مثيل لها. وتبقى الجامعة التونسية أكبر متغيب في مرحلة الانتقال الديموقراطي بأزماته المتعددة.

هناك الآن منطق الجودة الذي يقيّم المؤسسات الخدمية بعناوينها المتعددة، والجودة هي تلك العلاقة بين المؤسسة ومستخدميها والمنتفعين منها. وقد انتبهت المؤسسات إلى الطلبات الملحة التي تأتي من هؤلاء المنتفعين والتي ترتكز على الإنصات وعلى السياق الفرداني الجديد الذي يؤمن بمحورية الفرد وبأهوائه المتعددة وبضغوطاته المختلفة والتي على المؤسسة مهما كان اختصاصها أن تأخذه في الاعتبار.
نشهد الآن تهاوي المؤسسات الخدمية وهي في حالة هشاشة متواصلة والجامعة هي إحدى هذه المؤسسات. ولتجاوز هذه الهشاشة أمامنا فرص ممكنة لوضع سياسات عمومية للجامعة تستجيب للتحولات الجديدة، سياسة عمومية في الشكل وفي المضمون. من حيث الشكل على الجامعة أن تكون مؤسسة جاذبة وعلى مستوى المضمون هناك تحدّ كبير في مستوى إنتاج الأفكار لا من حيث إنتاج الامتحانات والديبلومات فقط. لا يمكننا في كل الحالات مواصلة التعامل مع أغلب المؤسسات الجامعية و هي مؤسسات نصف دوام.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115