قهوة الأحد: في استقلالية البنك المركزي والتمويل المباشر للدولة: السيــاســـات والمخـــــــــاوف

عرف النقاش العام في بلادنا عودة الحوار الاقتصادي إلى صدارة اهتمامات الرأي العام مع بروز الخلاف بين الحكومة والبنك المركزي حول تمويل قانون المالية

التعديلي لسنة 2020. وقد اخذ هذا الخلاف منحى سياسيا مع بروزه على الملإ اثر بيان مجلس إدارة البنك المركزي ونقده لمشروع القانون ثم النقاش الذي جمع المحافظ مع لجنة المالية ودعوة الأخيرة للحكومة لسحبه وإعادة النظر فيه .

كنا نتمنى أن لا يبرز هذا الخلاف على الملإ وان تكون مؤسسات الدولة قادرة بالتشاور والنقاش على تجاوز للخلافات وإيجاد الحلول خاصة في الظروف الحرجة والأزمة الخانقة التي تعيشها بلادنا .والخلافات والصراعات بين المسؤولين على السياسات المالية والنقدية وخروجها إلى العلن تأثير على الواقع السياسي والاقتصادي العام.
فهده الخلافات بين أعلى المؤسسات الاقتصادية للدولة لها تأثير على الأوضاع العامة وقد تزيد من وضع الإحباط الذي تعيشه بلادنا . كما أن لها من الناحية الاقتصادية انعكاسات سلبية على رؤية المؤسسات المالية لبلادنا وعلى استعدادها للاستثمار والمخاطرة .وتتطلب هذه الانعكاسات العمل سريعا على إيقاف هذا الخلاف ومحاولة إيجاد الحلول السريعة لتجاوزه.

أما من الناحية الاقتصادية فان هذا الخلاف يطرح مسالة نظرية وفكرية هامة وهي دور السياسات غير التقليدية في دفع النمو والتنمية . والسياسات غير التقليدية في مفهومها العام هي السياسات التي تحاول أن تخفف من وطأة وضغط السياسات التقليدية المحافظة والتقييدية (restrictive) في التعاطي مع تمويل الاقتصاد .
والسؤال الذي يطرح نفسه وراء التساؤل والصراع الدائر اليوم حول استقلالية البنك المركزي ومدى مساهمته في التمويل المباشر لميزانية الدولة يهم جرعة التحرر التي نود إدخالها في السياسة النقدية .
والسؤال الذي يأتي مباشرة اثر السؤال الأول يهم نسبة المخاطرة والمخاوف التي يحملها غياب جماح يكبح المغامرة في السياسة النقدية .
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة سنعود إلى التاريخ لنقف عند جذور النقاش حول السياسة النقدية .

• في جذور السياسات المحافظة:
لقد عرف العالم هيمنة السياسات النقدية التوسعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور السياسات الاقتصادية ذات المنحى الكينزي .وقد عملت هذه السياسات بتنسيق كبير مع السياسات المالية لدفع النمو ومساعدة البلدان المتقدمة على تجاوز آثار الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 وإعادة بناء هذه البلدان بعد الانعكاسات المدمرة للحرب العالمية الثانية .
وقد نجحت هذه السياسات الاقتصادية بشكل كبير في دفع النمو وكانت وراء الفترة الذهبية التي عاشها الاقتصاد العالمي إلى بداية سبعينات القرن الماضي .
إلا أن العالم سيدخل في مرحلة جديدة من الأزمات الاقتصادية والركود والتي ستنهي مرحلة دولة الرفاه .وستكون هذه الأزمات وراء تصاعد البطالة وتراجع النمو والصعود الكبير لمعدلات التضخم في اغلب البلدان المتقدمة .
وستساهم هذه الأزمات الاقتصادية وعجز السياسات الاقتصادية في تراجع السياسات الكينزية وظهور ثورة في التفكير الاقتصادي وبداية الثورة النيوليبرالية في اغلب البلدان المتقدمة مع عودة القوى اليمينية وهزيمة القوى الاشتراكية الديمقراطية .
وستعمل الثورة النيوليبرالية على نقد تدخل الدولة في الاقتصاد وستفتح المجال واسعا أمام عودة السوق وآلياته لتنظيم المجال الاقتصادي وتعديل التوازنات الاقتصادية الكبرى . وستتأثر السياسات الاقتصادية بهذه الثورة الاقتصادية وتشهد تغييرات جذرية .وستنادي الأفكار الاقتصادية النيوليبرالية بضرورة حياد الدولة عن الديناميكية الاقتصادية لما يحدثه تدخلها من اخلالات .

وسيعمل هذا الإطار الفكري الجديد على تحديد إطار عام للسياسات المالية التي تسعى إلى الحد من عجز الميزانية وتقنينها .وستبلغ السياسات المالية مداها في توافق ماستريشت Maaschtrit التي وضعها الاتحاد الأوروبي والتي ستأتي بما يسمى بالقاعدة الذهبية والتي تفرض على البلدان الأعضاء سقف %3 من الناتج القومي الخام لعجز ميزانياتها .
ولن تقف هذه التغييرات الجوهرية في السياسات الاقتصادية على المجال المالي بل ستمتد إلى عديد المجالات الأخرى وبصفة خاصة مجال السياسات النقدية.

• التضخم والسياسات النقدية المحافظة:
ستكون السياسات النقدية في قلب الإصلاحات والتحولات التي ستعرفها السياسات الاقتصادية منذ بداية الثمانينات . وسينطلق النقد للسياسات النقدية التوسعية مع تصاعد التضخم في اغلب البلدان المتقدمة ومحاولة اغلب البلدان الدخول في سياسات مالية متشددة ومحافظة لإيقاف هذا النزيف.
وسيبدأ هذا التحول في الولايات المتحدة الأمريكية مع تعيين بول فولكر (Paul Volcker) على رأس البنك المركزي الأمريكي أو الاحتياطي الفدرالي سنة 1979 حيث سيقوم بالرفع في مستوى نسب الفائدة بطريقة كبيرة لإيقاف الضغوطات التضخمية . وسيكون هذا التحول الكبير في السياسات النقدية الأمريكية منطلقا لضبط سياسات نقدية متشددة في اغلب بلدان العالم .

إلا أن هذه السياسات والترفيع الكبير في نسب الفائدة لن تكون كافية لتمتد الإصلاحات في الميدان النقدي إلى مجالات اكبر وأوسع وتضم الجانب المؤسساتي .
وستقوم هذه الإصلاحيات بإقرار تحولين مهمين - الأول يهم استقلالية البنوك المركزية عن القرار السياسي لضمان عدم تدخل المسؤولين السياسيين في السياسة النقدية وبضفة خاصة لضبط سياسات نقدية توسعية خاصة في الفترات الانتخابية .وهنا لابد من الإشارة إلى انه والى حدود منتصف ثمانينات القرن الماضي كان عدد البنوك المركزية المستقلة محدودا وكانت اغلبها تخضع للسلطة التنفيذية . وستكون هذه الإصلاحات وراء تحول كبير للمؤسسات المالية لتصبح أغلب البنوك المركزية في العالم مستقلة يحكمها مجلس إدارة مستقل يحدد سياساتها الكبرى واختيارات السياسات النقدية .
إلا أن استقلالية البنوك المركزية لا تعني غياب التنسيق معها وبصفة خاصة التنسيق بين السياسة المالية للحكومة والسياسة النقدية .
أما الجانب الثاني والمهم في السياسات النقدية الجديدة والمحافظة فيخص تقنين عدم تمويل البنك المركزي للدولة بطريقة مباشرة لدفعها للقيام بالإصلاحات الضرورية وإيقاف نزيف المالية العمومية .
وقد عرفت السياسات النقدية تطورا كبيرا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ليصبح هدفها الرئيسي والأساسي محاربة التضخم . وصاحبت هذا التطور تحولات مؤسساتية كبرى ومن ضمنها استقلالية البنوك المركزية ورفض التمويل المباشر لخزينة الدول.

• في البحث عن هامش للسياسات النقدية:
لقد ساهمت السياسات النقدية المتشددة في حماية الاقتصاديات العالمية من التضخم والذي شهد تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة . إلا أن هذه النجاحات لم تمنع هذه السياسات من النقد. فلقد اعتبر الكثيرون أنها لعبت دورا كبيرا في تراجع الاستثمار وبالتالي في هشاشة النمو .
كما أشار آخرون إلى أن هذه السياسات لم تمنع البلدان المتقدمة من الانحرافات والمغامرات المالية وبالتالي من المرور بأزمات اقتصادية جادة مثل أزمة 2008 و2009.
وقد ساهم النقد الموجه لهذه السياسات التقليدية والمتشددة في التطور الذي عرفته السياسات النقدية في السنوات الأخيرة وفي الابتعاد عن توصياتها . فكانت العودة إلى السياسات غير التقليدية ومحاولة التخفيف من التشدد النقدي من خلال التقليص في نسب الفائدة وفتح المجال للبنوك المركزية لتمويل ميزانيات الدول في حدود معينة .
وقد دعمت الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم اليوم والانعكاسات الاقتصادية للجائحة الدعوات المتتالية لمزيد من الهامش في السياسات النقدية والتقليص من شدتها لدفع النمو والاستثمار .
إن النقاش الذي نعيش على وقعه اليوم في بلادنا على ضوء الخلاف بين البنك المركزي والحكومة حول قانون المالية جزء من حوار ونقاش عالمي حول مستقبل السياسات النقدية وعلاقتها بالسياسة المالية . ولئن دافعنا على أهمية فتح هامش السياسات النقدية وخاصة في الفترات الاستثنائية فإننا نؤكد على ضرورة أن تحترم السياسات غير التقليدية بعض الضوابط الدقيقة حتى لا تتحول إلى مصدر إزعاج وعدم استقرار للاقتصاد ولتوازناته الكلية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115