حين أتعب من التجوّل في السوق، أمشي إليه. أجلس حذوه. أنتظر زوجتي حتّى تعود. تحبّ زوجتي النبش في سقط الثياب. تقضي الساعات تسعى بين الأكداس والدكاكين. تقلّب السلع بتمعّن، بحرص كثير. في سوق سقط الثياب، لا تعرف زوجتي تعبا ولا كللا. تقضي الصباح كلّه تتجوّل بين الأروقة. تنظر. تقلّب الثياب قطعة، قطعة. تبحث عن درّة مكنوزة. أراها تغنم قبل النساء ما كان من فستان ومن معطف. أنا أيضا أحبّ النبش في الأكداس وتراني أسعى جاهدا حتّى ألقى ثوبا بخس الثمن. يبقى الفرق بيني وبين زوجتي كبير. أنا من فريق الهواة. وتلعب زوجتي مع الأكابر. مع المحترفين... بعد ساعة من النبش والنظر، يشدّني الضجر. أتعب. أترك زوجتي تخوض المعركة، «تلعب» لوحدها وأمشي إلى الباب حيث ألقى الشابّ السنغاليّ.
بيني وبين الشابّ علاقة قديمة. توطّدت العلاقة مع الزمن. أنا وزوجتي من روّاد سوق سقط الثياب بالمنزه. نمشي إليه كلّ أسبوع، مرّة في الشهر. أمام الباب الكبير، ألقاه في مكانه. تحت ظلّ شجرة. أمامه متاعه وقد حطّه أرضا فوق لحاف أسود، مزركش. الكلّ يعرف الشابّ السنغاليّ. كنت ألقاه دوما مبتسما. أحييه. أجلس بجانبه على كرسيّ بلاستيكيّ. أسأله عن حاله وكيف كانت تجارته. يجيبني دوما بنفس الكلمات، بنفس التفاؤل. هو بخير ويحمد الله كثيرا وهذه تجارته تدرّ عليه رزقا يكفيه لعيشه. قلت له، في أوّل لقاء بيننا، إني صحفيّ ويهمّني معرفة ما يحمله من رأي ومن نظر. لم ير مانعا وتوطّدت مع الأسابيع بيننا العلاقة. بيني وبين الشابّ الأسود اليوم صلات وتاريخ. كنّا نتحدّث في مواضيع شتّى. في ما كان يجري في إفريقيا من انتفاضات وحروب. في ما يحصل من انتخابات. في ما كان من مطر وحرّ. كان الحديث معه ممتعا وكنت ألقى الشابّ لبقا، ذكيّا.
سألته يوما كيف يلقى العيش في هذا البلد وكيف يرى التونسيين. هذا سؤال أسأله كلّما لقيت أجنبيّا. قال الشابّ وفي صوته بعض تردّد: «تكمن مأساة التونسيين في ما يحملون من نرجسيّة. يعتقد التونسيون أنّهم أفضل الخلق. أنّهم سرّة الكون وكلّ الكون لهم عاشق وبهم مبهر». قلت: «كيف هذا، هم نرجسيّون؟» قال: «يعتقد التونسيّون أنّهم خير أمّة أخرجت للناس. أنّهم أذكى الناس. أنّهم أفضل الناس. أمّا سواهم من البشر، فهم متخلّفون. لا يفقهون. يعتقد التونسيّون أنّهم الأصل والمركز وأنّ غيرهم تفاهة، غبار تهزّه الريح.» ويضيف: «لن أحدّثك عمّا يحمله التونسيّون من عنصريّة. فهذا عندهم سلوك عامّ، مشترك. وبقدر إجلالهم لأهل الغرب ومن كان لونه أبيض، أزرق العينين، تراه متكبّرا، للسود محتقرا»...
عادت زوجتي محمّلة. اشترت ما كتب الله من ملابس. اشترت لي حذاء رياضيّا. فرحت بالحذاء ومنذ زمن وأنا أبحث عن حذاء رياضيّ. انتهت الفسحة. أترك الشابّ وبضاعته. أعود مع زوجتي إلى البيت. لماذا أنا مجبر إلى العود مع زوجتي؟ هل الزواج إكراه وعبوديّة؟ لا أحبّ العود إلى البيت. في البيت، عيشي حزين، رتيب. كم أودّ البقاء صحبة الشاب البهيّ؟ أبادله الحديث. يخبرني عن عيشه اليوميّ. أخبره بما كان في الحياة من شدائد وأباطيل...
أحكي لزوجتي ما دار بيني وبين الشاب الأسود من حديث. أسألها لماذا يحمل التونسيّون نرجسيّة؟ لماذا يعتقدون أنّهم الذكاء والفطنة وهم الكرم والجود؟ في ما أرى، قول الشابّ صائب. أنا أشاطره الرأي. من أين لنا حتّى نكون خير أمّة؟ حيّرني السؤال. دار السؤال في خلدي. بقيت أردّده مرّات عديدة. لا أرى ما سبب ما نحن فيه من استعلاء ونرجسيّة...
بالعكس، في ما أرى، نحن اليوم في الدرك الأسفل. في بؤس وشقاوة عظيمة... «لا تبالغ، يا شيحة. نحن لسنا في بؤس. نحن كبقيّة الشعوب. فينا عورات وفينا فضائل. فينا غرور وفينا تواضع.» أنا لا أبالغ. أنظر في شعبك يا أخي. ألا ترى ما هو يحمل من عنجهيّة، من نرجسيّة؟ في المجتمع التونسي هناك فقر وبطالة. هناك صعلكة وهمجيّة. هناك عبث وفوضى. تعليمنا رديء. اقتصادنا هشّ. نحيا بالصدقات وخبزنا بالقروض. نحن شعب جاهل، فقير. ألا ترى أنّ البلاد ضاقت بأهلها؟ ألا ترى أنّ الكثير فرّ بجلده؟ كلّ الشباب يشتهي الرحيل. ها هم يلقون بأنفسهم في البحر. ها هم كلّ يوم غرقا يموتون... كذلك نحن يا سيّدي. هذا ما نحياه ونراه، في الليل وفي النهار، منذ سنين.