حديث الفرد: في ضحالة الفكر الديني

طوال النهار، أنا ممدّد. منذ أسبوع وأنا بين الفراش والأريكة ممدّد. في ساقيّ اليسرى حمرة وانتفاخ. منذ مدّة، أنا مريض. منذ سنين،

أراني بين صحّة وعلّة. ما الذي أصابني وفي ما مضى كنت في عنفوان وشدّة؟ هل انتهى العمر البهيّ؟ انتهى العمر البهيّ. أنا اليوم في السبعين من العمر. أنا اليوم في أرذل العمر. لا، أبدا. أنا لست في أرذل العمر. فقط، هو الجسم فيه بعض توتّر. مع المرض هناك العلاج. مع الداء هناك الدواء. سوف أعالج ما اعوجّ في جسمي وسوف تعود لي عافيّتي... يجب أن أبقى ممدّدا، طيلة أيّام عدّة. ذاك ما قاله الطبيب. ذاك ما أنا أفعل. أحيانا، يهزّني النعاس فأنسى ألمي وساقيّ اليسرى. أحيانا، أقرأ كتابا. أمرّ على الأوراق بسرعة. يعاودني الضجر. ألقي بالكتاب جانبا. أنظر في نفسي فألقاني متعبا. أنظر من النافذة، فأرى العصافير في شجرة الليمون تتجمّع، تتفرّق. اصفرت شجرة الليمون. لم ينزل الغيث منذ مدّة. ما أن تعود إليّ عافيّتي، سأسقي الشجرة بماء زلال وأعطي للعصافير خبزا فيه ماء وسكّر. أحبّ النظر في العصافير تنقر خبزي. لا تحبّ زوجتي ما أفعل. تنهرني. تقول إني وسخّت الأرض والجنيا. أعدها بأن لا أطعم العصافير ثانيّة. لمّا هي تنام، أعدّ للعصافير خبزا مبللا بماء وسكّر. ها هي العصافير، بين أغصان الليمون، تغرّد، ترفرف. أترك العصافير وأحمل نظري إلى الدنيا. فوق سطح البيت المقابل، وقف عاملان. واحد يلبس قبعة بيضاء وقميصا أحمر وصاحبه قبعة زرقاء وقميصا أزرق. أنظر في ما يأتيه العاملان. لا يأتي العاملان شيئا. دوما واقفان. يتحدّثان. ينظران في المارّة، في السماء. أتركهما واقفين. أعود بنظري إلى شجرة الليمون. بين الأغصان، هناك عشّ لعصافير السطوح. لا أرى إن كان في العشّ صغار. أنهض لأرى. يشدّني الوجع. أعود لأتمدد. لماذا أنا دوما مريض؟ أعود إلى وجهي أدلكه. إلى شعري أفركه. أنظر في السقف، في الأبواب، في الجدران، في ما كان حولي. لا شيء حولي يشدّ النظر. هذه البنيّة تعدّ أكلا في المطبخ. هذه زوجتي تنظر كعادتها في الشبكة. أغمض عينيّ. أفتحهما. أنظر في الساعة. لا تتحرّك الساعة...
لا أحد في الشارع يمشي. لا شيء في السماء. هناك شمس مشرقة، محرقة. فوق سطح الدار، قبالتي، وقف عاملان. دوما يتحدّثان. أنظر في الشبكة. لا شيء جديد في الشبكة. يهزّني نوم خفيف. أفتح عينيّ. فوق السطح، هناك دوما عاملان. كانا جالسين على كدس من الرمل وأحيانا يقفان. دوما، يتحادثان. في ماذا يا ترى يتحدّثان؟ هما لا يعملان. هما يقتلان الوقت. ينتظران ساعّة الخلاص. أنا أيضا أقتل الوقت. أنتظر ساعّة الخلاص. كي أشفى، يجب أن أبقى دوما ممدّدا. ذاك ما قاله الطبيب. لا أدري لماذا انسدّت عروقي؟ لم أفهم ما قاله الطبيب من شرح.
ها أنا فوق الأريكة ممدّد. في بيتي سكون. لا أحد في الشارع يسير. أخذ كتابي. منذ أسبوع، أقرأ كتاب العفيف الأخضر: «إصلاح الإسلام». هو كتاب طريف. فيه دعوة للصحوة. هو محقّ العفيف الأخضر. في أرض المسلمين، هناك معتقد بائس وفكر ضحل. يقول الأيمّة في المساجد كلاما هزيلا. لا ينفع. كلامهم في الناس مرهب للنفس، محبط للعزم. فيه بغضاء وأحقاد...
° ° °

أنا لا أصلّي. أنا لا أرى نفعا في الصلاة. لمّا كنت صبيّا، كنت أصلّي وأصوم الشهر وأستغفر الله في الليل والنهار. كلّ يوم جمعة،أحضر خطب الإمام... انتهى ذاك الزمن. تغيّر فكري. أعرضت عن الكثير من معتقداتي. اعتنقت أخرى بديلة .هو الإنسان حركة. لا يستقرّ على نحو وعلى حال. أحيانا، لأجدّد العهد، لأعلم ما يقوله الأيمّة من أقوال، أمشي إلى المسجد لأصلّي وأسمع ما جاء في الخطاب من وعض وإرشاد. يوم أقرّ العزم، أتطهّر. ألبس أحسن جبّة. أتعطّر. آخذ معي سجّادي وألبس حذاءا سقطا. في المسجد، آخذ مكانا قبالة المنبر. أتكئ على عمود، في ركن. في المسجد، تراني مطمئنّا. أتمتم. أسبّح باسمه. أترحّم على روح أمّي. أحيانا، أنظر في وجوه الناس وقد جاؤوا من كلّ الأشكال. امتلأ المسجد كبيضة. يدعو المؤذّن للصلاة. آتي الصلاة. أستغفر الله كثيرا. أحيّي المصلّين على يميني وعلى يساري. انتهت خطبة الجمعة وما تبعها من صلوات. أنهض وفي رجليّ انكماش. في الركوع والسجود أرضا عذاب. هناك أيضا رائحة الأقدام. أنتهي من المسجد. أعود إلى بيتي مسرعا. أسأل نفسي عمّا جاء في خطبة الإمام. لا شيء جاء في خطبة الإمام. ريح تجري. كلام ضحل، ظلام. أشعر بضيق. ألعن نفسي والأيمّة وأهل الاسلام. ما قاله الإمام فوق المنبر، كان هزيلا. لا طعم فيه ولا رائحة. كلّه ترهيب ووعيد. كلّه تخويف للناس. ذكّر ببعض الآيات الساريّات. قال في الناس أحاديث قديمة. أعاد على الناس قولا معلوما، منهوكا. ألا يعلم الإمام أنّ كلامه عصف مأكول، لا يسمن ولا يروي؟ لماذا يرضى المصلّون بمثل هذه الكلام السخيف، الخارج من رحم الزمان؟
° ° °
قال المنصف، صاحبي، في صلاة الجمعة الفائتة، في الضاحيّة الشماليّة، كان لنا إمام فيه حماسة وتحفّز. هو أستاذ متقاعد. كان يخطب في الناس بعربيّة قحّة. يومها، أراد الإمام أن يظهر للناس ما لنبيّ الله من كرم أخلاق ومن حسن معاشرة. ماذا قال؟ قال: في أوّل الإسلام، كان رسول الله يخطب في المؤمنين من فوق جذع نخلة وكان المصلّون من حوله يستمعون وكلّهم خشوع وانتباه. استمرّ الحال كذلك زمنا. في كلّ يوم جمعة، يصعد الرسول على جذع النخلة ويقول في الناس بيانه. مع الزمن، تطوّر الظرف. قوي عود الإسلام وأصبح للمسجد منبر من خشب. في يوم الجمعة الموالي، دعي للصلاة وصعد الرسول فوق المنبر يخطب في الناس. لم يبدأ الرسول خطابه لمّا سمع والناس من حوله بكاء يسري ودموعا تذرف. من الباكي في بيت الله، يوم الجمعة؟ نظر الرسول فرأى جذع النخلة يبكي ودموعه منهمرة. دون تردّد، نزل النبيّ من فوق المنبر ومشى إلى جذع النخلة يسأله. أجابه جذع النخلة وكلّه حرقة وتحسّر: «أنا حزين لفراقك يا رسول الله. كم أودّ أن أراك تصعد فوق قامتي وتقول للمسلمين خطاب يوم الجمعة». عندها، بكى رسول الله تأثّرا. احتضن الجذع بلطف وطلب منه عفوا ومعذرة. رأى الناس ما فعل الرسول مع جذع النخلة فأجهشوا بالبكاء وأكبروا في الرسول لطفه وفي الجذع وفاءه...
° ° °
في سنة خلت، في أحد شوارع تونس العاصمة، قرب السوق المركزية، التقيت برجل شيخ يلبس جبّة بهيّة. عليه وقار المصلّين وله لحية كثيفة بيضاء. ظننته إماما أو شيخا صوفيّا من الثقاة. اقتربت منه. حييته بأحسن تحيّة. قلت للشيخ، أسأله: «سيدي الشيخ، أريد أن أعرف، فهل تدلّني. عندي أخ درس في الغرب حيث كسب علما غزيرا وشهائد عليا. بعد سنين، عاد أخي إلى الدار وفرحنا أيّما فرح بقدومه. كنّت وإياه نلتقي صباحا وفي العشيّة. معا، نتحدّث في كلّ مسألة. في ما رأيته، تغيّر فكر أخي. ليس هو أخي المسلم الذي يصوم الشهر ويؤمن باليوم الآخر. في ما أرى، أغرق التعلّم أخي. في ما أعتقد، أفسدت المعارف طبعه. عيشه لسنين في الغرب غيّر نظره. سلب فكره. أصبح يقول: «إن الإسلام من وضع البشر وأن الجنّة والنار مجاز وصور». كان الشيخ الوقور يستمع إليّ وكلّه انتباه وتمعّن: «سيدي الشيخ، أظنّّه تخلّى عن دين محمّد. رغم ما بذلته من جهد لم يهتد أخي وظلّ يقول إن الدين خرافة قديمة، أثّثها البشر. فماذا يقول شرع الله في أخي وكيف السبيل إلى إعادته إلى رشده؟». سكت الشيخ ردهة. مرّر يده على لحيته. رفع رأسه إلى السماء. اقترب منّي وقال بصوت خافت: «في ما أعلم والله أعلم، أخوك ارتدّ عن دين محمّد. أخوك خرج عن الدين الحنيف. قول شرع الله في المرتدّ واضح، جليّ...».
° ° °
قال صاحبي وأكّد قوله آخر. في سوسة، في السنة الماضيّة، التقى بائع حلوى لصغار المدارس بتاجر يبيع موادّ غذائيّة. كان البائع والتاجر صديقين. يصلّيان معا في نفس المسجد. يحضران جنبا إلى جنب خطب الجمعة. كانا يلتقيان وكلّهما حرص ومودّة. يتبادلان الرأي. يجتهدان في فهم النهي والمنكر. هما أخوان في الدين. هما حبيبان في الإسلام... ذات مرّة، حصل بينهما خلاف. هو خلاف عابر. بل هو خلاف شديد. قال البائع للتاجر: «إن أمّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم تلحقها الدعوة وماتت غير مسلمة. ولأنّها لم تقل الشهادتين ولم تأت الصيام ولا الصلاة فلسوف تحشر في جهنّم مثلها مثل الكافرين». قال التاجر: «لا، هذا غير ممكن. لن تمشي أمّ الرسول إلى النار ولسوف يشفع لها ابنها النبيّ». طال النقاش. احتدّ. تمسّك كلّ برأيه. غضب الرجلان ومشى كلّ في اتجاهه...
في يوم، بعد صلاة المغرب، وجد الأهل والجيران التاجر في بيته يتخبّط في دمه. ذبح التاجر من الوريد إلى الوريد. مات التاجر في ساعته. رأى الجيران بائع الحلوى، صاحبه، يخرج من البيت مسرعا. تمّ القبض عليه. لم ينكر البائع وقال للشرطة: «إنّ التاجر مرتدّ وحكم المرتدّ في الإسلام قتله.» قتل التاجر وترك من بعده سبعة صغار وسجن بائع الحلوى لسنين عدّة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115