قهوة الأحد: كيف فقدت الدولة التونسية قدرتها على التفكير والاستشراف ؟ (2)

فقدت مؤسسات الدولة التونسية على مر السنين قدرتها على التفكير والاستشراف .وسيشكل هذا العجز أحد مواطن الضعف وعنوان الأزمة الحالية

ويفسر عدم قدرتنا على بناء المشاريع والتصورات الكبرى كما كان الشأن في السابق .
وأسباب هذا الوهن تعود في رأيي إلى خمس مسائل أساسية .

المسألة الأولى هي سياسية بالأساس وتعود في رأيي إلى غياب الرؤيا السياسية الجامعة لكل التونسيين بعد انحسار وتراجع الرؤيا الحداثية التي هيمنت على تجربتنا التاريخية منذ منتصف القرن التاسع عشر .فصياغة البرامج والتصورات الكبرى ليست مسألة تقنية بسيطة بل هي مسألة سياسة بالغة التعقيد وتتطلب ركائز فكرية وفلسفية واضحة بالغة التعقيد وتتطلب ركائز فكرية وفلسفية واضحة المعالم .

وهنا نشير إلى أهمية التصور الإصلاحي والحداثي الذي ساد في الساحة الفكرية منذ منتصف القرن التاسع عشر . فقد انخرطت النخبة التونسية في مشروع الحداثة الكوني والذي ظهر إثر الثورات الأوروبية وفلسفة الأنوار في نهاية القرن التاسع عشر .وقد تمكنت النخب التونسية من الاهتمام والالتقاء بهذا المشروع اثر الزيارات التي قام بها أهم مثقفينا في تلك الفترة والمسؤولين السياسيين في الإيالة التونسية إلى باريس ولقاءاتهم ونقاشاتهم مع النخب الفكرية والسياسية هناك .

وسيشكل منذ دلك الوقت الفكر التحديثي الأساس الفلسفي للمشروع التونسي .ولن يقتصر هذا التأثر بهذا المشروع الحداثي بل سيمتد كذلك إلى النخب في عديد البلدان الأخرى في محيط الإمبراطورية الإسلامية العجوز وخاصة في تركيا ومصر . وسترتكز كل محاولات الإصلاح في هذين البلدين وخاصة التنظيمات في تركيا وإصلاحات محمد علي في مصر على هذا المشروع الحداثي والذي سيشكل قارب النجاة للمجتمع العربي والإسلامي بعد قرون من الاستبداد والتهميش والتخلف .

وسيكون كذلك هذا الإطار الفكري والفسلفي الإطار وأساس التجربة السياسية على مدى قرن ونصف .فسيعود إليه مصلحو القرن التاسع عشر لصياغة برامج إصلاح التعليم وبناء أسس الدولة الحديثة وبناء الصناعة الحديثة وتحديث الجيش .
كما سيشكل نفس هذا الإطار التحديثي المرجع الذي ستعود إليه الحركة الوطنية في بناء برنامجها السياسي في جانبيه الأساسيين : محاربة الاستعمار ومناهضة الفكر التقليدي والمحافظ للنخب القديمة .

كما سيكون هذا البرنامج بوصلة بناة الدولة الوطنية وبرنامج الاستقلال .فسترتكز رؤية دولة الاستقلال على فكرة التحديث والتي ستشكل القاسم المشترك لكل البرامج والتصورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
هكذا شكلت الرؤيا السياسية الجامعة لكل التونسيين والتي تمحورت حول فكرة الحداثة الإطار العام لضبط السياسات والتصورات الكبرى في بلادنا منذ المنتصف الثاني للقرن الماضي .

إلا أن تراجع وتآكل هذا الإطار الفكري والأزمة الخانقة التي عاشتها كل القوى السياسية الحاملة لهذا المشروع لعبت دورا كبيرا في تراجع قدرة مؤسسات الدولة على التفكير والاستشراف .فغياب أو تراجع البوصلة كان له تأثير كبير ساهم بصفة كبيرة في غياب الرؤيا والتذبذبات الذي نعيش على وقعها اليوم .
المسألة الثانية التي لعبت في رأيي دورا مهما في الوهن والعجز الذي تعيشه مؤسسات الدولة يعود إلى حالة الضعف الكبير الذي عرفته منذ الأشهر الأولى للثورة .وقد كان لهذه المؤسسات والى حدّ الثورة قفزة كبيرة في جميع المجالات وبصفة خاصة في الميدان الاقتصادي والاختيارات الاجتماعية الكبرى .

منذ ظهور مؤسسات الدولة في الميدان الاقتصادي ومنذ السنوات الأولى للاستقلال كان لها دور كبير في جمع المعلومات حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي من خلال مؤسسات الإحصاء التي وقع بناؤها . ثم ستقوم هذه المؤسسات بالقيام بالتحاليل الضافية للواقع الاقتصادي والاجتماعي في إطار وثائق رسمية ذات قيمة كبيرة . ثم تعمل على ضبط التصورات والسياسات للخروج من الأزمات ولرفع التحديات .

والاهم من كل هذا هو قدرة هذه المؤسسات الرسمية على تجميع كل الفاعلين الاقتصاديين من إجل إنجاز التوجهات الكبرى التي يقع ضبطها .فالمخططات الخماسية والبرامج التنموية التي تحتويها والاستثمارات الكبرى في البنية التحتية وقع إنجازها .

كما أن البرامج والاستثمارات في القطاع العام والتي تحدد مؤسسات النهوض بالاستثمار في القطاعين الفلاحي والصناعي وقع كذلك تنفيذها .هذا إلى جانب أولويات التصدير وغيرها من البرامج الحكومية التي سهرت مؤسسات الدولة على تحقيقها. إلا أن قوة مؤسسات الدولة سيصيبها الوهن وستفقد قدرتها على الفعل والإنجاز ولتصبح في بعض الأحيان عائقا أساسيا أمام برامج واهتمامات الفاعلين الاقتصاديين وبصفة خاصة القطاع الخاص.

المسألة الثالثة التي ساهمت في وهن وعجز مؤسسات الدولة ترتبط في رأيي في القطيعة الحاصلة اليوم بين مؤسسات التفكير والبحث وصياغة السياسات العمومية فبلادنا نجحت في بناء مؤسسات بحثية جامعية هامة في جميع الميادين من الصحة إلى الاقتصاد إلى الحقوق والفلاحة وغيرها أكثر كالتقنيات الحديثة وقد تمكنت هذه المؤسسات البحثية من بناء قدرة علمية وتحليلية مهمة .

إلا أن القليل من هذا البحث ومن هذا العمل البحثي المهم توجه للسياسات العمومية لدعم الاختيارات الكبرى للدولة وتوجهاتها .فبقيت السياسات العمومية تجتر وتعيد إنتاج سياساتها السابقة بينما واصل البحث العلمي طريقه بعيدا عن اهتمامات المسؤولين في الدولة واختياراتهم الكبرى .
ونجد هذه القطيعة في المجال الاقتصادي فيما يخص علاقة المؤسسات البحثية الجامعية أو حتى الرسمية منها . فنجد في بلادنا في اغلب المؤسسات الجامعية مراكز بحث ذات مستوى مرموق وعال . إلا أن مساهمة هذه المؤسسات في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية تبقى محدودة وغير ذات أهمية بالرغم من المحاولات العديدة للباحثين الجامعيين للتأثير على السياسات العمومية .

ويمكن أن نسوق نفس الملاحظات بالنسبة للمؤسسات البحثية الرسمية والتابعة للدولة . فدراساتها على أهميتها لا يصل منها إلى النزر القليل للسياسات العمومية .

ولتفسير هذه القطيعة أكدت المؤسسات الرسمية على الطابع النظري لنتائج المؤسسات البحثية والتي لا يمكن أن تتحول إلى سياسات عمومية . فغلبة الآني على اهتمامات مؤسسات الدولة جعلها تهمل وتهمش هذه العلاقة الهامة والمركزية في تحديد السياسات.ويتأتى في هذا الإطار تهميش دور الاقتصاديين في مراكز القرار للدولة.
المسألة الرابعة والتي تفسر الوهن والعجز الذي تعيشه مؤسسات الدولة فيهم تدخل المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي في ضبط أولوياتنا الاقتصادية.وقد شهد دور هذه المؤسسات تناميا كبيرا وغير معهود في السنوات الأخيرة خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وانخرام التوازنات الكبرى لاقتصادنا .

ونتج عن هذه الأزمات المتتالية تدخل كبير للمؤسسات الدولية في نقاش اختياراتنا الكبرى وفي بعض الأحيان فرض بعض الأفكار والآراء .

وقد نتج عن هذا التدخل تراجع كبير لمؤسسات الدولة التي تقوم بالتفكير والاستشراف لندخل في مرحلة جديدة من الحوار العصيب والمضني بين الدولة والمؤسسات الدولية من اجل ضمان دعمها المالي لبلادنا . مما نتج عنه تهميش كبير لدور الدولة الاستشرافي .
تعيش بلادنا منذ سنوات أزمات متعددة على جميع المستويات . ولعل احد أهم هذه الأزمات فقدان قدرتها إلى التفكير والاستشراف . ولابد لنا من استعادة هذه القدرة في اقرب الآجال لبناء رؤيا جمعية جديدة وعقد اجتماعي قادر على إعادة بناء الأمل في المستقبل .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115