بصدد تجديد عناصرها بحيث نشأت أشكال أخرى للمشاركة في الشأن العام دون أن يكون الفرد منتظما في بنية سياسية؟ الأرجح أن أزمة كبيرة تشق التنظيمات الحديدية، والأرجح كذلك أن الشبكة بصدد الهيمنة على كل الأنشطة وهي الآن عنوان لكل اتفاق بين مجموعات أفراد من أجل الوصول إلى ضمان امتيازات دون أن تكون بين هؤلاء الأفراد التزامات شاقة أو ارتباطات مستمرة في الزمن تقودها أفكار ونزعات وتصورات.
المهمّ الآن كيف الوصول إلى تحقيق نتيجة ما دون الوقوع في تنظيم محكم وتراتبية حديدية وولاءات مستمرة وارتباطات لا يمكن التنصل منها. في هذه الحالة تكون الشبكة أكثر جدوى لأنها الأسرع والأقل تكلفة دون إيغال في الفكر ودون بذل مجهود في الإقناع وفي المتابعة المستمرة. يمكن للشبكة أن تنشأ ويمكن لها أن تندثر بمجرد الإيفاء بالمهام التي ظهرت من أجلها. أما الحزب كما هو في التعريف التقليدي فهو تنظيم مستمر بقيادة وبأفكار وبأهداف قد لا تتحقق في المدى المنظور أو في المدى المتوسط دون أن يكون ذلك دافعا لاضمحلالها.
بدأت أزمة الأحزاب السياسية منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي وتعمقت أكثر منذ انهيار جدار برلين وتشكل عالم جديد فيما يعرف بنهاية الإيديولوجيات. مع نهايات ستينيات القرن الماضي ومع ثورة ماي 1968 انهارت فكرة البُنى وتفكك مدلولها السوسيولوجي وبرز الفرد المسؤول عن اختياراته وتطلعاته بعيدا عن أسر البنية واكراهاتها. منذ ذلك الحين تراجع نفوذ الأحزاب السياسية شيئا فشيئا ومعه أيضا التنظيمات النقابية. تراجعت داخل هذا السياق السرديات الكبرى وبدأت السرديات الصغرى تحتل المكان. ومعه أصبحت التجربة الحزبية مثلا تجربة فردية أكثر منها تجربة جماعية من أجل هدف جماعي. وتزامنا مع هذا التحول نشأت الحركات الاجتماعية الجديدة بأفكار وبمحاور نضالية غير مسبوقة وهذه الحركات هي أقرب إلى التنظيم الشبكي منها إلى التنظيم الحزبي الحديدي. وأفرغت الأحزاب السياسية من محتواها ولم تبق لها -تقريبا- سوى المشاركة الانتخابية وممارسة الحكم.
بدأت الأزمة تنخر أحزابنا السياسية في تونس ولو بدرجات متفاوتة ومما عمّق أزمتها الانتقال الديموقراطي الذي وضعها أمام معضلات فكرية وسياسية وأخلاقية كبيرة. كما وضعتها كذلك معضلة الحوكمة التي فشلت فيها الأحزاب السياسية في تونس لأنها تريد أن تفعل سياسيا في مرحلة انتقال ديموقراطي بعقلية تقليدية تكاد تكون مرسومة بعقلية الشيخ والمريد. وهو ما جعلها غير قادرة على مواجهة تحديات المرحلة، بل وفشل الكثير منها -رغم صعوده المدوي- في البقاء والتواصل.
تبدو أزمة الأحزاب السياسية في تونس غير منفصلة عن التشبث بمقولة وجود الأحزاب السياسية من أجل أن تحكم. هذه المقولة دفعت أحزابا عديدة في تونس إلى الاندثار بمجرد فشلها في الانتخابات، انفض من حولها الناس وانتقلوا بين الأحزاب يتابعون موقعها في البورصة السياسية وبورصة الحكم. لم نر إلى حدّ الآن حزبا سياسيا في تونس منذ الثورة رجع في السباق واستفاد من أخطائه وبنى استراتيجية جديدة وأعاد بناء ذاته بطرق مغايرة. أغلب هذا الصنف من الأحزاب ذهب دون رجعة، لأنها في الأغلب أحزاب تتشكل بمناسبة استحقاق انتخابي لا غير. وحتى الأحزاب السياسية التي كان دافعها نضاليا قبل الثورة لم تستطع خلال مرحلة الانتقال الديموقراطي أن تستوعب في خطابها و خصوصا في ممارستها التحولات السوسيولوجية الطارئة وهي انتقالنا بشكل لافت إلى مجتمع الأفراد الذي لا يبحث عن الفكرة بقدر بحثه عن الجدوى، إذ أن المنظومة القيمية الجدية لم تعد منظومة القيم الجماعية بقدر ماهي منظومة القيم الفردية التي يحتاج داخلها الفرد إلى تحقيق المنافع
المادية و الرمزية. ولهذا ندرك مثلا النجاح الوقتي لبعض الأحزاب السياسية التي فهمت أن التواصل المباشر والمشخّص مع الأفراد ومع الجماعات هو الطريق الأمثل لتحقيق نتائج انتخابية مذهلة.
يميل الناس إلى مقولتي الحوكمة والمساءلة وقد مكن سياق الانتقال الديموقراطي من جرأة أكبر للمحاسبة. ولهذا يمكن أن تنشأ الأزمات داخل الأحزاب السياسية تحت طلب مزيد من الديموقراطية داخلها. العلاقات العائلية والمصالح الزبونية والولاءات هي في الأغلب الثقافة السائدة داخل الأحزاب، وضعف منسوب الديموقراطية داخلها يأجج الصراعات وينبئ بانشقاقات كبيرة ويهدد الكثير منها. والمشكل العويص ليس التوجهات الفكرية أو السياسية لهذه الأحزاب بقدر ما هو مشكل متعلق بتوزيع المنابات والامتيازات. إذ يحدث أن يقع إفراغ حزب من قياداته من أجل مواقع في الدولة دون النظر للحزب كمنظومة وجبت رعايتها وتمتينها.
هناك أصوات تتعالى عند كل تشكيل حكومي تدعو إلى أن تكون الأحزاب محور هذا التشكيل ولكن من الأجدى أن تهتم قيادات الأحزاب بالتفكير العميق في بلورة منظومة حزبية جديدة أكثر ديموقراطية و أكثر فعلا في الميدان...