المهيمنة والتي قصت وكتبت لنا التاريخ من زاوية راحدة رافضة لكل الرؤى الأخرى والمختلفة؟ ألم ندخل زمنا يتطلب منا الاهتمام بكل أشكال التنوع في قراءة تجاربنا السياسية ومعاناتنا وصمودنا أمام الاستبداد؟ ألا يحق لنا أن نبدأ صفحة جديدة في كتابة تجربتنا التاريخية منفتحة على الآخر وقادرة على الأخذ بعين الاعتبار تجربته وذاتيته المنفردة والخصوصية؟
لم أتوقف عن طرح هذه الأسئلة على نفسي منذ انتهائي من قراءة كتاب «بنات السياسة» الصادر عن دار النشر «زنوبية» منذ أيام - و«بنات السياسة» للذين يجهلون هذه الكلمة هي التسمية التي أطلقها الأمنيون والأجهزة البوليسية على مناضلات وسجينات الحركة اليسارية لتمييزهن عن سجينات الحق العام في بداية سبعينات القرن الماضي.
هذا الكتاب هو نتاج لمشروع كتابة جماعية للتجربة النضالية النسوية في حركات اليسار وأشرفت عليه الناشطة السياسية والثقافية زينب فرحات، وقد جمع «بنات السياسة» شهادات مناضلات وناشطات سياسيات جمعتهن حركات اليسار وهن آمال بن عبا ودليلة محفوظ جديد وزينب بن سعيد الشارني وسامية الرديسي بن حسن وعائشة ڤلوز بن منصور وليلى تميم بليلي.
ولعل أهمية هذا الكتاب لا تقف عند توثيق هذه التجربة النضالية المهمة لنساء تونس بل كذلك في نقد الكتابة الذكورية للتاريخ وهاته القراءة الأحادية الجانب للتجربة السياسية في بلادنا، وتحديد مفهوم الكتابة الذكورية لا يتوقف على الكتابة الرجالية بل يشمل كل القراءات التي هيمنت في كل مجالات العلوم الاجتماعية وبصفة خاصة في الكتابات التاريخية والتي تنفي وتهمش جانب التنوع والاختلاف في التجربة التاريخية لتنتهي الى شكل من أشكال الهيمنة الذكورية والتي تزيد من استبداد العلاقات الأبوية.
لقد اهتممت منذ سبعينات القرن الماضي بالكتابات السجنية والتي وثقت لتجربة صمود أجيال عديدة من الشباب أمام نكث دولة الاستقلال لعهودها بالحرية والديمقراطية وصعود الاستبداد ليصبح السمة الأبرز للنظام السياسي في المنطقة العربية وقد جمعت هذه الكتابة كل الأنواع والأشكال من إبداع أدبي وشعري ودراسة وبحث، كما اهتمت هذه الكتابة السجنية ووثقت لكل تجارب الصمود أمام الآلة القمعية من اليساريين الى الاسلاميين ومرورا بالحركات القومية.
وقد ساهمت هذه الكتابة على اختلافها في استعادة ذاكرة هذه النضالات والتي حاولت القراءة الرسمية للتاريخ محوها من السردية الجماعية، الا أن هذه الكتابات على أهميتها تأثرت بالمنحى الذكوري السائد والمهيمن في علوم التاريخ والعلوم الاجتماعية بصفة عامة، فجاءت كل الكتابات والقراءات والتي جاءت لتؤرخ لتجارب النضالات اليسارية كما الاسلامية تركز على الدور الرجالي وتدفع بالمساهمات النسوية في هذه القراءات الذكورية مقتصرا على الدعم الذي قدمنه للرجال. وتم تهميش هذه المساهمات في مجتمع أبوي رافض لكل دور للمرأة وخاصة حضورها في الفضاء العام.
فكم من صوت نضالي نسوي وقع دفن أنفاسه لينعم الرجال بالريادة ويعيدوا انتاج صورة الأب والشجاعة الذكورية وتهميش التجربة النسوية في النضال السياسي لا يقتصر على الأسماء والتي غابت عن الذاكرة الجماعية وبقيت مغمورة الى حدّ اليوم بل يهم كذلك الجانب الذاتي لهذه التجارب واختلافها عن التجربة الرجالية.
ونحن وقد بدأنا نبش الذاكرة وإعادة كتابتها فلا بد من أدوات جديدة وسردية مناقضة للسردية الذكورية السائدة من أجل مسك هذه التجربة التاريخية من مختلف جوانبها وخاصة في تنوعها.
وتكمن أهمية كتاب «بنات السياسة» الى جانب نفضه التراب على ورقات هامة من تجربتنا السياسية الى محاولة قطعه مع المقاربة الذكورية السائدة وبناء قراءة جديدة تأخذ بعين الاعتبار التنوع وتؤسس لمقاربة جديدة ترتكز على الذاتية النسوية.
وسنحاول في هذا المقال التوقف على بعض القضايا الهامة التي تعرض لها هذا الكتاب والتي تشكل في رأيي تأسيسا لسردية جديدة في التعاطي مع التاريخ ومع التجربة السياسية.
المسألة تخص الكتابة أو بالأحرى العزوف عنها من قبل جيل كامل من المناضلات ورفض الخوض فيها ومحاولة دفعها وابعادها نهائيا الى مجال المسكوت عنه، وتعرضن في شهاداتهن الى هذا الصمت والسكوت عن هذه التجربة، وتشير آمال بن عبا في شهادة لها لهذه المسألة لتؤكد «كيف يمكن تفسير هذا الصمت الطويل لمناضلات منظمة «برسبكتيف»، وأنا واحدة منهن، عن القمع الوحشي الذي تعرضن له في السبعينات، من اعتقالات غير قانونية وتعذيب في محلات سلامة أمن الدولة بوزراة الداخلية ومثول أمام هيئات قضائية استثنائية أفضت الى أحكام سجنية بالنسبة للبعض منا» (ص 34).
إذن كيف يمكن أن نفسر هذا الصمت المطبق؟ كيف يمكن أن نقرأ هذا السكوت الرهيب على تجربة القمع والعنف الذي مارسته آلة الاستبداد، ونعود الى آمال بن عبا لمحاولة فهم أسباب هذا الصمت القاتل. تقول في شهادتها «في أول لقاء لنا، لم أنم ليلتها لأرق أصابني ربما بسبب الخوف من اثارة ماض كله وجع،ولكن الأكيد، أيضا، بسبب فرحتي العارمة بتقاسم تجربة عشتها مع هؤلاء النساء اللاتي طالما حلمت بالالتقاء معهن يوم كنا شابات نحمل مثلا ديمقراطية تنبذ العنف» (ص 35).
أثارت آمال بن عبا وكل المناضلات هذا الوجع والألم من العودة لهذا الماضي، ولعل العامل الآخر الذي يفسر هذا العزوف عن الكتابة هو ما يتعرض له كل الموقوفين في الزنازين وهو ارغامنا على الكتابة و كنت قد عشت هذه التجربة في سنوات النضال الطلابي. تقول آمال بن عبا في هذا المجال «بقيت زمنا طويلا عاجزة أمام كل محاولة لتدوين تجربتي وسبب ذلك تلك الطريقة الشاذة في التعذيب والمتمثلة في ارغامنا، منذ اليوم الثاني، على الكتابة. كانوا يجبروننا تحت التهديد على كتابة مسارنا النضالي، والكشف عن أسماء رفاقنا. واذا ما وجدوا ذلك غير كاف، مزقوا الأوراق لنعيد الكتابة من جديد (ص 43).
وكان الألم والقمع والعنف وراء هذا العزوف عن الكتابة والتي منعت الكثير من المناضلات من الخوض في هذا الألم الدفين في الذاكرة.
أما المسألة الثانية التي أردت التوقف عندها والتي تشكل احدى خصوصيات هذه القراءة وتهم الحساسية المفرطة التي نجدها في الكتابات السجنية النسوية والتي تختلف عن الكتابات الذكورية حيث يكون الصمود والشجاعة أهم العناصر ويقع اخفاء هاته الأحاسيس المفرطة في الحب والألم عندما تكتب متجهة الى رفيقاتها في هذه التجربة الأليمة «معذرة رفيقاتي إن استعرت ذاكرتكن لترميم بعض ذاكرتي، لأن ذاكرتي احتجبت وراء تراكمات الزمن، وأصبحت مثل تلك اللوحات المتأرجحة بين التجريدي والواقعي حيث يبدو الأشخاص كالأشباح لا ملامح». (ص 171).
وتبدو هذه الحساسية والألم عند الحديث عن الأم والتي وقفت الى جانب هذه النضالات وانخرطت فيها ودعمتها، ولعل الموقع المركزي للأم في الكتابات النسوية عن السجن تختلف عن القراءة الذكورية أين يكون دور الأم باهتا ومحدودا، وتشير عائشة ڤلوز في هذا المجال «من غريب الصدف أن ترجع بنا الذاكرة الى هوية الأم ومعاناتها، هي الأم تمثل الخيط الذي يربط اليوم والبارحة، وكأنها ترغب منا أن نوقف وربما نلغي الزمن. عشن حياتهن في ظل المجموعة، العائلة الأولى والثانية.. منصهرات في الوسط الذي يعشن فيه، كل ما يقمن به يبدو طبيعيا، لأنه المألوف. وفجأة اكتشفنا أن أمهاتنا لهن كيانهن وحدودهن وسط المجموعة، يختلفن في ردود الفعل، في الحب والعناية وفي تقبل الوجع» (ص 179).
ولعل الفرق في القراءات وأهمية القراءة الجندرية أو النسوية مقارنة بالقراءات الذكورية يكمن في اكتشافها لأهمية الجسد في التجربة السياسية، والشهادات في هذا الكتاب تلتقي حول هذه المسألة وأهميتها في التجربة الجمعية وتشير آمال بن عبا الى هذا الشجن والألم عندما تشير « هددني بالاغتصاب وأجبرني على نزع حمالة الصدر، استطعت يومها أن أتمالك نفسي والنظر إليه مباشرة لأحدثه عن «مهنته المقرفة» لم أكن أعرف بعد كلمة الجلاد كتعريف باللغة العربية لهذه «المهنة» ثم تكررت هذه الحصص لاحقا ولكنني لم أكن أشعر بالخوف» (ص44).
وتتوقف كذلك دليلة محفوظ على نفس المسألة وتكتب «كان ينتابني خلال اقامتي في هذه الزنزانة المخنقة توتر شديد وأصبحت لا أحتمل حالتي الوسخة وانعدام الحركة فيها حيث كنت أتطلع الى الخروج منها لرؤية النور وكان ذلك لبضعة عشر دقائق فقط يوميا صباحا ومساء قبل الساعة السادسة، لأنعم بغسل وجهي في ساحة «الآريا» (ص 76).
أصبح الجسد في هذه السرديات النسوية مجالا للصمود أمام آلة القمع والاستبداد، وقد حاولت هذه الأنظمة السلطوية تركيع المناضلات من خلال استباحة الجسد وهدم صمودهن من خلال الاعتداءات على الجسد وحرمته. إلا أن هذه الشهادات تشير وتثبت الى أن استباحة الجسد، على خلاف ما توقعته الأنظمة الاستبدادية، كانت نقطة انطلاق الرفض والمقاومة.
وهذا الرفض لم يقف عند حدود رفض الاستبداد بل تجاوزه ليضع محل النقد والمقاومة المجتمع الأبوي، وتشير آمال بن عبا الى أن «بنات السياسة» كن وراء «تشكيل الوعي المزدوج بحقيقة النظام الأبوي القائم على هيمنة الذكر وتلازم هذه الهيمنة مع نكران حرية التعبير على العنصر النسائي، والوعي بالاختلاف الذي يميزنني كمرأة، وهو اختلاف تم نفيه باسم المساواة بين الجنسين والسكوت عنه في انتظار مستقبل مشرق» (ص 55).
وكانت هذه المعانات النسوية والسياسية نقطة انطلاق للنضال النسوي حيث ستعرف بلادنا ظهور المنظمات النسوية والتي ستضع نصب أعينها الاستبداد السياسي والاستبداد الجندري أو النوعي والتي تشكل الأساس الصلب للمجتمعات الأبوية. وستساهم هذه النضالات في التراكمات التي ستقود الى الثورات العربية.
كتاب وشهادات «بنات السياسة» هو نقطة لانطلاقة جديدة في إعادة بناء وكتابة تجربتنا التاريخية، وهذه الكتابة لا تقتصر على الدور السياسي الذكوري بل تمتد الى الذاتية النسوية وقدرتها على الصمود أمام قدرة المجتمع الأبوي على نفي الآخر ورفض التنوع.
سيداتي شكرا على صمودكن وعلى مساهمتكن في دك الأسس الخفية للاستبداد، ووعدا على مناصرة قضاياكن لأنكن تشكلن عنوان الدخول الى غد أحلى ومستقبل أجمل.