برج بابل: تونس بلدُ التسويات العاثرة

التسويات جزء من الفعل السياسي، ولكنها في تونس تكاد تكون قاعدته وثقافته التي لا مناص منها. والتسويات تمرين سياسي فائق السهولة رغم تعقده

في بعض الأحيان، التسويات علامة من علامات الخوف والكسل السياسي لأنها تعتمد في الأغلب على استعمال الدهاء وفنون كسب المزايا بأقل التكاليف الممكنة، التسويات هي مواجهة المسائل الشائكة بأقل ما يمكن من الأضرار. والتسويات السياسية ليست معزولة عن ثقافة الاستعجال وثقافة ترك المسائل تمرّ دون إدراك نتائجها في المدى المتوسط والبعيد. فمنذ 2011 وتمرين صياغة الدستور في تونس يقع تحت طائلة التسويات. القوي سياسيا والمنتصر في الانتخابات يفرض شروطه على الآخرين قارئا ما ستؤول إليه التسوية من منافع ومن مطبات.

وقد تمّت صياغة دستور 2014 بتسويات عديدة، منها ما كان تحت ضغط الغاضبين محليا ومنها ما كان تحت طلب المحترزين دوليا. وعلى الفاعل السياسي أن يدير هذه التسويات إرضاء للجميع. وأهم ّ التسويات كانت تلك المرتبطة بهوية تونس أي بالفصل الأول من الدستور. تسوية حول الهوية تمّ بمقتضاها الإبقاء على الفصل الأول كما جاء في دستور 1959 وكفى المؤمنين شرّ القتال. تمت التسوية دون نقاش عام مستفيض ودون إدراك لتشعبات المسألة، المهمّ أن تسير الأمور وننتقل إلى المسألة التي تليها. ووصلنا إلى الفصل السادس الذي لا يقلّ أهمية وهو فصل حرية الضمير الذي تمّت مقايضته بفضول أخرى تتعلق بطبيعة النظام السياسي. وهكذا تواصل هذا التمرين دون عرضه على النقاش العام وكان الجميع على عجلة من أمرهم. وبالتوازي مع هذا التمرين الدستوري اجتمع الشيخان في باريس صيف 2013 من أجل التسوية الكبرى تجنبا للفتنة الكبرى. وكان شعار اللقاء هو تجنيب البلاد الدخول في أزمة سياسية لا يمكن السيطرة عليها. وسمّي الحدث بتوافق الشيخين ولكنه في الأصل تسوية سياسية كـأي تسوية تقع إثر أزمة خانقة.

استساغ التونسيون تمرين التسوية لأنه التمرين الأسهل في السياسة، هو تمرين لا يعرض الأمور ديموقراطيا على النقاش العام، الفاعلون السياسيون هم الذين يقررون مصائر الأشياء داخل ثقافة الغنيمة وكان التبرير المتداول هو الخروج من عنق الزجاجة. وجاء الحوار الوطني خريف 2013 بقيادة الرباعي الراعي، هذه المرة وقعت التسوية أمام أنظار العالم واعتبرت تجربة الحوار الوطني مرجعا دوليا في التسويات أفضت إلى استقالة حكومة وحلول حكومة جديدة مستقلة عن الأحزاب. لم تكن التسوية سوى تأخير أو تأجيل للأزمة. وبعد انتخابات 2014 دخلت تونس في حمّى التسويات وهي تسويات في الأغلب من أجل مآثر السلطة وتوزيعها على من يشاركون في صناعة التسويات.

وقد توالت الحكومات بعد انتخابات 2014 والعنوان الأبرز هو الجهد المضني من أجل التسويات الممكنة حتى أن الأحزاب المشاركة في الحكم أصبحت في كل الأحوال أحزاب تسويات ولا أحزاب فعل سياسي من أجل الخروج من الأزمة الشاملة. لا شيء يدلّ في تونس على أن الأحزاب السياسية الفاعلة تدرك أن التسوية مهما كانت فاعليتها لا تغدو إلا أن تكون فعلا محدود التأثير قد يخرج من أزمة ولكن لا يجد لها حلولا جذرية وهو ما جعلنا إلى حدّ الآن نتخبط في نتائجها. والتسوية ليست متعلقة فقط بتوزيع مغانم السلطة، هي أيضا حاضرة في التعامل مع الاحتجاجات الاجتماعية. ومنذ 2011 والحلول التنموية هي حلول تسوية لا غير. ومثّل الاقتراض من المؤسسات المالية الوطنية والدولية أسلوب التسوية الوحيد تقريبا كي تتواصل الدولة. هذه الدولة التي تشتري السلم الاجتماعي عبر التسويات، فتفتق إبداعها على نموذج شركات البستنة التي تؤشر على كسل تنموي فضيع بموجبه يحصل العاملون على رواتب دون إنتاج فعلي.

هذا الأسبوع هو أسبوع التسويات بلا منازع. والهدف هو إيجاد رئيس حكومة يتولى تشكيل فريق وزاري. وستكون أولى التسويات هي من سيشارك في هذه الحكومة ثمّ نمرّ إلى المرحلة التي بعدها وهي اختيار التشكيل الحكومي الذي سيحظى بموافقة برلمانية. وستكون هذه التسويات حاجزا أمام الأسئلة الحقيقية التي يجب طرحها. ماهي هوية هذه الحكومة من حيث برامجها؟ ما هي رؤيتها الاستراتيجية من أجل بداية الخروج من الأزمة الشاملة؟ هل هي حكومة قادرة على التماسك أمام صعوبات المرحلة عندما تأخذ القرارات المؤلمة للجميع؟

الإجابة على مختلف هذه الأسئلة مرتبط بحجم التسويات التي بها ستتشكل هذه الحكومة. فإن كانت حكومة تسويات كسابقاتها فسيكون مآلها الفشل وإن كانت حكومة برامج إنقاذ فعلي وجدّي بفاعلين مشهود لهم بالتجربة وبالكفاءة فإننا في هذه الحالة يمكن أن نأمل في بداية خروج من الأزمة. ولكن المؤشرات الأولى تفيد بأن ثقافة التسويات هي التي ستتصدّر المشهد الحكومي القادم، و في هذه الحالة لن نخرج من الأزمة....

ليس أسوأ في مرحلة الانتقال الديموقراطي من تجذّر ثقافة التسوية، إنها ثقافة تنقصها الجرأة والإبداع، هي أقرب إلى الكسل السياسي الذي يقوده منطق الغنيمة لا غير. التسوية السياسية يمكن أن تخفّف عنا الآلام ولكن من المستحيل أن تُبعد عنا المرض. بتسويات أقلّ يمكننا أن نرى الأفق أمامنا ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115