والسياسي المتقلب وتعاقب الحكومات و تدني بنية الخطاب و طبيعة العلاقات التنافسية بين الفاعلين من جهة, والأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة و جحيم الحرب المفتوحة في الجارة الجنوبية ليبيا و المرشّحة لمزيد من الاشتعال بعد التّدخل العسكري التركي و التهيؤ المصري من جهة أخري , كلها عناصر تجعل من المخاوف من الحرب والفقر و انتكاسة التجربة الديمقراطية تأخذ شيئا فشيئا موقع شعارات الثورة : الحرية و الكرامة والتنمية العادلة كما لو أن الحلم انقلب الى كابوس .
مع ذلك ودون البقاء في حدود الأحداث علي أهميتها و دون التّركيز على الأشخاص رغم أدوارهم المختلفة و المتفاوتة من المهم أن نقارب ما آل إليه وضعنا من منظور فلسفة التاريخ أي من منظور الـتأمل في معني سير التاريخ واتجاهات هذا السير, أي من خلال منهج للتفكير في التاريخ يدفع نحو التركيز على التاريخ بصفته مجموعة من السياقات والشروط الاجتماعية التي تحدد الفعل التاريخي، بدلاً من اعتبار التاريخ سلسلة من الأسباب المباشرة والنتائج الآنية فقط. ميزة فلسفة التاريخ هي أنها تمنحنا مجالا لفهم صيرورة حركة التاريخ بما هي حركة صراع وتناقض داخل عالم الفعل الانساني لا نخالها هدأت حتي تستأنف من جديد .
لنذكّر بداية أن ثورة تونس كانت عصيانا أنتربولوجيا ومعرفيا لكلّ الفكر العنصري الغربي و الأورو-مركزي الذي استبعد شعوب الشرق المسلمة وكلّ من يعيش خارجه من استحقاق الكرامة والحرية , غلبة الثقافة الغربية التي تتدعي أن عليها أن ترسّخ في كلّ من يعيش خارجها قليلا من تقدير النفس تهاوت أمام صرخة الكرامة المنتصرة عشية 14 جانفي وما بعدها وهو حدث كوني جلل .
ومع ذلك ليست الثورة قطيعة باردة بين لحظتين بل هي فاتحة طريق عسير لا نزال نتقدم فيه حينا ونتراجع حينا آخر ونخوض من خلاله صراعا مريرا بين عدة متناقضات ثقافية , سياسية , طبقية .. ما نتناوله في هذه الحلقة الأولي من سلسلة ثلاث مقالات هو الصراع بين مشروع دولة الخلافة كمشروع إخواني كما لعدة حركات إسلامية أخري والدوّلة الوطنية والذي نقدر أنه قطع أشواطا هامة لتأكيد هزيمة دولة الخلافة ونهاية يتوبيا الدّولة الدينية مقابل انتصار الدولة الوطنية التونسية في حدود مجالها الترابي و سلطتها القانونية .
فلقد تبين بعد قرن من سقوط الخلافة الإسلامية أن علي عبد الرّازق كان على حق الإسلام ليس دين ودولة و أن دعاة الدولة الوطنية المصغرة التي ناضل من أجلها سياسيون براغماتيون مثل الحبيب بورقيبة هي الأفق التاريخي لمجتمعاتنا وليست دولة الوحدة الإسلامية .
فكرة « الإسلام هو الحل » و « دين ودنيا » تتهاوي تحت وقع تطور المخاضات الأخيرة للثورة التونسية وتحديدا كنتيجة لصراع الأضداد بين مشروع «الأسلمة» ومشروع الدّ مقرطة والعلمنة وهو صراع وصل حدّ التضحية بالحياة و لم تكتفي فيه بعض القوي الراّديكالية لمشروع الأسلمة بالأدوات الفكرية و السياسية بل لجات للسلاح و العنف والاغتيال و تداخلت أجندتها مع ما يجري في المنطقة سواء في سوريا واليمن والعراق وأفغانستان ثم في ليبيا أي خارج حدود الدّولة الوطنية .
داخل الحدود الجغرافية للدولة التونسية و ضمن المرجعية الإصلاحية و المجتمعية و السلوكية لسكانها سقطت جاذبية دولة الخلافة في الفضاء العام أولا ثم في ما انتهي اليه دستور 2014 لنقل بإختصار أن انتصار العلمنة هذه المرة هو انتصار مجتمعي وان من يريد نفيه بتشنج يعارض مسيرة فكرة بدأت تتحقق تاريخيا .
ما راكمناه بين 2011 و 2014 ثم من 2014 الي اليوم نستطيع ان نقرأه من منظور فلسفة التاريخ أو بتعبير هيجلي « كشف دلالته التطورية » على أنه مسيرة الفكر « الإصلاحي التحرري « وقد صار يحشد من أجل مواصلة هذه المسيرة مواطنين كونيين معظمهم شباب قادرين على استخدام عقولهم بأنفسهم في الفضاء العام , وقادرين على تحويل هذا الحشد الى انتصارت دستورية و تشريعية والي منازلات فكرية وقانونية شجاعة , لتفكيك بينة الهيمنة و انتزاع الحرية , فقانون مناهضة العنف ضد النساء و قانون مناهضة العنصرية و الجدل حول تقرير لجنة الحريات و التضامن مع المواطنة اية الشرقي ... هي التجليات الراهنة لمخاض دفعت نحوه الثورة و جذوره ضاربة في القدم منذ قرن ونصف على الأقل وكلما استمر الصراع المدني و السلمي ستتقدم فكرة الحرية باعتبارها نواة صلبة في الوعي الفردي والجماعي مستقبلا , لكن كيف نقرأ عودة هذا الصراع الحاد داخل الطبقة السياسية ومؤسسات الدولة ؟
ما يبدو اليوم كجزء ظاهر من جبل الجليد , مواجهة صاخبة بين تعبيرتين متطرفتين الأولي لائتلاف الكرامة و من يدعمه داخل الحقل الإسلامي من جهة و الحزب الدستوري الحر ومن يراهن عليه كأداة تشفي في الإسلاميين وضامن لمكاسب الدولة « المدنية « هو صراع لمحاولة نفي لحظة التأليف الممكنة والتي اقتربنا منها بحكم جدلية التاريخ .
القاسم المشترك بين الطرفين في هذه المواجهة هو رفض ما تستطيع الثورة أن تدفع نحوه أي الحريات الفردية و المدنية و التعددية فالأول من منطلقات عقائدية يعارض تقدم فكرة الحرية , والثاني من منطلقات موروث تسلطي للحزب الواحد و الزعيم الواحد يدير ظهره لمكاسب الثورة ويتنكر لها بل هو لا ينخرط في أي معركة من أجل تقدم فكرة الحرية .
ما يمكن أن نفهمه من وراء ظواهر الاحداث أن عودة هذا الاستقطاب الحاد هو بمثابة وقف التركيب الحاصل منذ 2011 وفي العمق منذ عقود و الهادف الى تشكيل وعي سياسي و تاريخي ديمقراطي يتشكّل عبر الصراع من داخل الثقافة الإسلامية وبمشاركة لفاعل إسلامي سياسي ديمقراطي وبمشاركة قوة مدنية تحررية شعبية بدورها , وقوي اجتماعية تقدمية يسارية لها أثرها .
ما يرشح من اتجاهات متنافرة هو التقدم نحو تأليف أو تركيب تاريخي تنتصر فيه فكرة الحرية و الديمقراطية في ضل الدولة الوطنية كسقف قانوني سيكون من عناصر تحققّه التاّريخي اكتساب لجزء من النخب الإسلامية الفاعلة للأدوات الموضوعية للمساهمة في بناء ثقافة ديمقراطية و مؤسسات ديمقراطية قابلة للتطور, وهو اليوم ممكن بل نلمسه لدي عديد الحلقات الإسلامية المستقلة أو المنسحبة من مواقع قيادية في حركة النهضة وداخلها , في صراع داخلي مع رؤي إسلامية أخري مازالت مشدودة للجذور الفكرية للرؤية الإخوانية ولحلم الخلافة السادسة , حتي لو كانت بقوة عسكرية تركية توسعية تحت قيادة حزب العدالة والتنمية ا أي عبر أردوغانية مثقلة بأوزار انحرافها التسلطي و القمعي منذ سنوات
داخل تركيا ونزعتها التوسعية
تفكيك الفضاء الديني وتعدديته شرط لنزع تسييسه المفرط و جعله جزءا من الروح الجماعية الجديدة القابلة بالغير, لقد عطّل الاستعمار ما كان يعتمل في رحم المجتمع من مخاض إصلاحي وضرب القوي الاجتماعية الحاملة له و الثورة اليوم حرّرت هذه الطاقة الإصلاحية وتمنح فرصة تشكل قوي حاملة لها .
من العناصر الأخرى هو عزل مشروع عودة التسلطية باسم «بورقيبية انتقائية « و تبني غائم للفكر الدستوري فللتجربة الدستورية محطات ألفة مع الإسلامين بدءا بتسهيل نشر جريدة المعرفة وصولا الى مشروع صخر الماطري المالى والإعلامي والسياسي ذو النفحة المحافظة, وهذا واحد من الوجوه الخفية للحزب الحاكم الذي شرع للقمع و التسلط وعطل تطور المجتمع السياسي بكل الوسائل ولم يعد قادر على العودة الا في شكل مهزلة.
لكن ومادامت الفكرة الديمقراطية قد تقدمت تاريخيا ضد هذه التسلطية وضحّت من أجلها أجيال , فلا بدّ لمثل هذا التركيب من فاعل من داخل الحركة الإصلاحية و الوطنية على أرضية التيار الإصلاحي فكرا وثقافة و قابلية للتعايش الديمقراطي داخل الدولة الوطنية المنتصرة اليوم تاريخيا و التي دخلت مرحلة مأسسة الديمقراطية , وهو تيار رغم أصالته لم يفلح كلّ ما آمن به اليوم بعد 2011 في ردّ الاعتبار اليه و استعادة رصيده في هذا السياق التاريخي الجديد . وسيرتبط نجاح التر كيب الجدلي لتجاوزالحالة الرّاهنة بتشكل هذه التعبيرة الدستورية الوطنية من داخل مخاضات الثورة وليس ضدها .
نحن إزاء مرحلة تطرح على المجتمع استكمال بناء مؤسسات هذه الدولة قانونيا و الدفع نحو جعلها ضامنة الوحدة و الاختلاف لا اللاغية لهما , فالدولة الديمقراطية التي منحتنا الثورة إمكانية بنائها تقطع مع التسلطية بالمعني السياسي كما قطعت الدولة الوطنية منذ قرن مع فكرة دولة الخلافة وكانت على حق وهو ما لا يمكن تحققه تاريخيا بذهنية استئصالية معادية لدور الدين في الفضاء العمومي . ولا بذهنية لا تاريخية ترفض قبول انتصار فكرة الحرية في الفضاء الإسلامي في استبطان لعقدة نقص كرستها قابليتنا للاستعمار ثم الاستعمار نفسه .
ويبقي الأهم في مسار انتصار الفكرة الديمقراطية وتحققها السوسيولوجي هو عدم اختزال الدّولة في دورها البيروقراطي وتحوّلها الى موضوع تسابق بين القوي السياسية عبر الوسائل السلمية لجعلها رغم التدوال بل بفضله التجلي الأرقي قانونيا و فعليا للمسار الطويل لتطور روح ديمقراطية مشتركة.
(يتبع : الحرية –التضامن أية علاقة ؟)