على المشهد الانتخابي الذي يمكن "للفضاء الأزرق" الدفع به في مقال عنونته : " انتخابات رئاسية بنكهة الفايسبوك "...
وبما أنّ مفهوم "الجمهورية" في التفكير السياسي يتسع لأكثر من شكل وتنظيم سياسي ويشهد تطور مطّرد على غرار "الجمهورية الفرنسية الخامسة" التي انطلقت سنة 1959 على أنقاض نظيرتها "الجمهورية الرابعة"، فإن لجمهورية الفايسبوك 1.0 التي أفرزتها انتخابات 2019 كل الحق كذلك في التطوير الذاتى السريع دون الحاجة إلى اتباع إجراءات دستورية معقدة او الحصول على أغلبية برلمانية مريحة بل يكفي أن يحدث تغيير في البنية الخوارزمية التي تتحكم فيها حتى نشهد تحولات عميقة في السلوك الافتراضى الجمعى وما ينجرّ عن ذلك من استتباعات مباشرة على المشهد الانتخابي برمته...
فبدل الاشتغال على استكمال البناء المؤسساتي للجمهورية الثانية التي جاء بها دستور 2014 ، بادر قسم كبير من رواد مرحلة ما بعد 2011 الى إرساء دعائم "جمهورية فايسبوكية" جدّ مؤثرة، بقوة اتصالية وتواصلية تتجاوز مصالح الاعلام والاتصال "بالقصبة" و"باردو" "وقرطاج" مجتمعين.. متعددة المراكز والفاعلين.. داخلها وخارجها مفقود.. شعارها الكبير " كوجيتو ديكارتى مشوّه الشك طريق اللايقين".. جهازها التنفيذى "كتائب فايسبوكية" منظمة في شكل "صفحات مموّلة" و"حسابات وهمية" و"مجموعات من الذباب الأزرق"، منها من يشتغل تحت يافطة مكاتب متخصصة في اليقظة السيبرنية والتوجيه والتأثير (بالمناسبة أحيلكم على المقال القيّم الصادر بتاريخ 11 جوان المنقضى بنفس الصحيفة تحت عنوان "صناعة التضليل وتوجيه الناخبين") .. ذخيرتها الحية مزيج كيميائي مٌتفجر يحتوي على "الأخبار الزائفة" و"الاشاعات غير المؤكدة" و"غرف صدى" للاختراق الممنهج للعقول.. مصادر تمويلها حاملة لسندروم "تداخل السياسي بعوالم الأعمال المشروعة والغير مشروعة".. تتحرك ضمن مجتمع تونسي "فايسبوكي بالفطرة" ...
ومن خلال استقبال رئيس الحكومة لمجموعة من "الانستغراميين " واليوتيبيين" و"المّدوّنين" وما أثار ذلك من ضجة واستهجان كبيرين بمختلف "المنصّات الاعلامية" و"مواقع التواصل الاجتماعي" أصبح من الواضح اليوم أن الطاقم الاستشاري المحيط برئيس الحكومة تفطّن قبل غيره إلى ضرورة تطوير عمل آليات هذه الجمهورية الافتراضية الرهيبة من خلال المرور بها إلى نسختها الثانية...
وفعل ظهور جيل جديد من مستخدمي الانترنات يطلق عليهم "بالمؤثّرين الرقمين" Influenceurs / Influenceuses القادمين من عوالم "المٌدوّنات" والسوشيال ميديا من "انستغرام" و"يوتيوب" ، وعلى اثر الإجراءات الرقابية المشددة التي اتخذتها إدارة "الفايسبوك" و"التويتر" على المحتويات المتبادلة على الشبكة، أمست "الصفحات المٌموّلة" و"المجموعات الفايسبوكية" المتخصصة في صناعة وتوجيه الرّأي العام الانتخابي صناعة مكشوفة الوجه، محفوفة بمخاطر الملاحقة القضائية وبالتالي وجب استبدالها بتكتيكات أكثر مرونة وأقل مخاطر وفرتها بسخاء المنظومة "الانستغرامية" و"اليوتيوبية"...
بالفعل، منذ قرابة السنتين أو أكثر تم رصد توجّه جديد لدى عدد كبير من مستخدمى الفايسبوك - الشريحة الشبابية بالخصوص - يتمثل في فتح حسابات بموقع "الاتستغرام" المٌلوّن والمغري الراجع ملكيته الى شركة "فايسبوك" منذ سنة 2012 .. موقع يتيح لكل مستخدم امكانية تقمص مهنة "المؤثر الرقمي" Digital influencer لفائدة العديد من المنتجات والعلامات التجارية، كما يمنحه الفرصة لجنى أرباح متفاوتة الأهمية على قاعدة كل حسب عدد متابعيه، فالخبيرة في التجميل "هدى قطان" على سبيل المثال لا الحصر تتقاضى قرابة 18 ألف دولار عن كل منشور على صفحتها داخل التطبيقة .. أما على منصة "اليوتيوب" فإن "المؤثر الرقمي الذي لديه أكثر من 7 ملايين متابع على منصة الفيديوهات يمكنه أن يكسب لغاية 300 ألف دولار لقاء الحملة الإعلانية الواحدة، وهو رقم أعلى بكثير من الأرقام التي يتم ربحها على القنوات الأخرى مثل فيسبوك والانستغرام"...
كما أنه ليس محمولا على "المؤثر الرقمي" أن يكون متخصّصا في "علوم التسويق الالكترونى" أو لديه خلفية أكاديمية بل يكفي أن يكون قادما من عوالم المشاهير المتعددة من رياضة وتجميل وعروض الأزياء الخ أو من قادة الرأي القادرين على استقطاب ألاف المتابعين عبر مدوناتهم، ليتم تصنيفهم فيما بعد من قبل شركات التسويق والاعلانات الى قسمين :
• "المؤثرون الكبار" أصحاب الحسابات القادرة على استقطاب وتعبئة أكثر من مليون متابع،
• و"المؤثرون الصغار" الذين برصيدهم بضعة ألاف من المتابعين فقط ..
على ضوء تقرير مجلة «بزنس إنسايدر إنتيليجنس» فانه من المتوقع : " أن تصل قيمة التسويق الذي يعتمد على المؤثرين إلى 15 مليار دولار بحلول عام 2022، لكن عند تصفح العديد من منصات التواصل الاجتماعي مثل «يوتيوب» و«تيك توك» و«تمبلر» و«سناب تشات» و«إنستغرام»، نجد أن هذه المنصات باتت «تُغرق» متابعيها والشركات على حد سواء بإعلانات وحملات يقودها مؤثرون."...
نقطة تحوّل نوعية في الاستراتيجية الفايسبوكية للتأثير والمغنطة الانتخابية عموما - بالرغم من أنها تحاول اليوم أن تبحث عن عذرية جديدة من خلال كشفها للعموم عن"عملية قرطاج" و"أرشيماد" الخ - تفطن لها العديد من الساسة في العالم.. فمن منطق "الصفحات المموّلة" و"المجموعات المتخفية" والشركات المتخصصة في "التأثير السيبرني" cyberinfluence التي لم تعد شركة "فايسبوك" قادرة على التستر عليها بحكم الضغط الشديد المسلط عليها من قبل "الكنغرس الامريكي" و"الاتحاد الاوروبي" على خلفية تورطها المباشر في فضيحة "كامبريدج اناليتيكا" المدويّة، تتجه أنظار قادة العالم اليوم أكثر فأكثر الى الدعاية الرقمية لبرامجهم وتوجهاتهم ومواقفهم المعلنة وغير المعلنة بنفس آليات تسويق المنتجات التجارية المتعارف عليها وذلك عبر التوظيف السياسي (الاتصالي والاحترافي) "للمؤثرين الرقميين"...
هل أن مثل هذا التوجه مٌدرج اليوم ضمن أولويات الأجندة الرقمية لرئيس الحكومة ؟ وهل سينضاف إلى مشهدنا السياسوي البائس "فتح فايسبوكي جديد" بنكهة الانستغرام واليوتيوب هذه المرة ، أبطالها طلائع من "المؤثرين الرقميين"؟