برج بابل: كُلفة الاصطفاف وضواحيه

يُدرك السياسي المُمارس أن الاصطفاف وراء مواقف أو تحالفات أمر جوهري أو هو من ضرورات الحياة السياسية. وتدلّ هذه الاصطفافات

على وجهات نظر من مسائل خلافية تتشكل من خلالها هويات الفاعلين السياسيين وهم يتعاملون مع المستجدات التي تطرأ. وتكون الاصطفافات وراء زعامات سياسية أو وراء دول أو محاور إقليمية أو حتى أفكار وإيديولوجيات. إذ لا يمكن لأي حزب سياسي أو دولة ممارسة الفعل السياسي بدون هذه التحالفات. والسياسة نتائج كما هو معلوم عند الجميع. وقدرة السياسي تكون من قدرته على إقامة التحالفات الناجحة.
ساد نقاش حاد بين السياسيين حول الفعل الديبلوماسي التونسي وحول حياديته في الصراعات الإقليمية ومنها الصراع القائم في ليبيا الآن. وكان هناك خجل في البداية من إظهار الموقف من الصراع الليبي، وقتها كان السياسيون يخوضون المعركة الانتخابية وكان خوفهم كبيرا من التورط في أحد التحالفات حتى لا يخسروا الانتخابات. وعند المواجهات السياسية إبان الحملات الانتخابية لم يكن هناك ما يفيد أن هؤلاء السياسيين على دراية واضحة بمآلات الأمور في ليبيا. وسادت وقتها مقولة حيادية الديبلوماسية التونسية الموروثة عن بورقيبة وعن ابتعاد تونس عن سياسات المحاور في الصراعات الإقليمية ولكن مقولة حيادية الديبلوماسية التونسية غير منطقية وتتناقض مع تاريخ الديبلوماسية التونسية التي لم تكن أبدا محايدة لا في عهد بورقيبة ولا في عهد سلفه. ويكفي التذكير بالصراع التونسي المصري حول الموقف من المانيا الغربية في فترة الحرب الباردة في منتصف ستينات القرن الماضي عندما رفض بورقيبة الإصطفاف وراء محور عبد الناصر الداعي إلى قطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا الغربية التي أعلنت عن اعترافها بإسرائيل. عندها قدّر بورقيبة أن الأمر لا يستدعي كل هذه المقاطعة. ونضيف إلى ذلك الموقف التونسي المساند بوضوح للعراق في حرب الخليج الأولى والثانية. إذا لم تكن هناك ديبلوماسية تونسية محايدة بل هناك براغماتية ديبلوماسية مسنودة بالسياقات الموجودة إبانها وبموازين القوى الفاعلة وبهذا تكون الديبلوماسية حالة ديناميكية لا معنى للثوابت فيها إلا تلك الثوابت العامة التي تعني حق الشعوب في تقرير مصيرها أو الحق في مناهضة التمييز العنصري.
نواجه الآن صراعا في ليبيا والجميع يعلم أنها حرب بالوكالة أطرافها عديدون تتقاطع مصالحهم. ونعلم أيضا أن الموقف من الصراع في ليبيا لا يُبنى من خلال الأهواء الأيديلوجية بل يُبنى من خلال تقدير الموقف في الميدان ومن خلال موازين القوى ومن طموحات كل جهة ومصالحها في الحرب الدائرة هناك. هنا تلعب الديبلوماسية مسنودة بالسياسة دورها في قراءة الوضع وفي قراءة مجمل السيناريوهات الممكنة في تطور الصراع وفي محصول الربح والخسارة من أي موقف يقع اتخاذه. ليس عيبا ديبلوماسيا أن تتخذ تونس موقفا مع هذا أو ذاك إذ أن الوقوف على الربوة أسوأ موقف ديبلوماسي يمكن اتخاذه خصوصا وأن لنا عمقا تاريخيا وجغرافيا وبشريا مع ليبيا لا يمكننا التنصل منه. الديبلوماسية الناجحة هي الديبلوماسية التي تناقش ديموقراطيا مسار بناء الموقف داخل المؤسسات السياسية المؤهلة لذلك، على أن يكون موقفا مبنيا وفق المصالح التي يقع التوافق عليها ديموقراطيا مع الوضع في الاعتبار أن الموقف يُبنى كذلك بالتشاور مع الجزائر التي نشترك معها في الحدود مع ليبيا والتي يهمنا جدا موقفها. إن الغرب الليبي هو عمقنا التاريخي والاقتصادي وحتى العائلي وهي عناصر يتمّ الأخذ بها عند كل موقف ديبلوماسي تقع مناقشته.
وقعت مناقشة لائحة سياسية قدمتها إحدى الكتل البرلمانية حول التدخل الأجنبي في ليبيا. وقد أحدثت هذه اللائحة لغطا كبيرا زاد في تأزيم الصورة التي هي في الأصل مأزومة حول البرلمان. طريقة تناول النقاش حول اللائحة كان يشي بعمق الأزمة السياسية التي نعيشها الآن. أكثر منه نقاش حول ليبيا إدانة متبادلة بين كتل برلمانية وأحزاب سياسية يُرادُ منها إعادة التموقع داخل الخارطة السياسية التونسية و إمكانية بناء تحالفات جديدة لفض النزاعات الداخلية لا غير. ولكن ما حصُل هو هذا الاصطفاف المقيت بين محورين على قاعدة ثنائية النحن والآخر. وهي ثنائية سياسية تعيدنا إلى مربع الصراع الإيديولوجي الذي لا يقدم لنا الشيء الكثير، بل أنه يُنهك القوى السياسية ويجعلها غير قادرة على البحث في المشاغل التي تعيشها تونس جراء جائحة الكورونا. وفد يتأثر سلبيا التحالف السياسي الحكومي ويعيدنا إلى دائرة تشكيل حكومة جديدة في وقت نحتاج فيه إلى توحيد القوى السياسية من أجل مواجهة التحديات المفروضة علينا في الوقت الراهن. إن تحديد الأولويات أحد نقاط قوة أي طرف سياسي والسياسي الناجح هو ذلك الذي يجيد تحديد الأولويات. وأعتقد أن أولوياتنا الآن هي تداول الشأن الاقتصادي والاجتماعي وتداعيات الأزمة وكيفية بناء قاعدة سياسية قوية للبدء في الإصلاحات الضرورية في نظام الصحة ونظام التعليم ومساندة المؤسسات الصغرى والمتوسطة ومزيد تثبيت ثقافة الحوكمة.
إن الاصطفاف السياسي الواقع الآن اصطفاف ثنائي القطبية وهو ما يزيد من رادكليته ويعمقها. نحتاج في هذا الانتقال الديموقراطي إلى تنوع العائلات السياسية حتى يكون النقاش العام أكثر ثراء واختلافا. نحتاج إلى عائلة يسارية لها القدرة على المبادرة السياسية ونحتاج إلى العائلات الأخرى الدستورية والقومية والإسلامية وكل القوى الحية النقابية وغيرها من قوى المجتمع المدني على أن تكون تونس بوصلتها الرئيسية ونترك آليات الديموقراطية تقوم بدورها بما في ذلك آليات الضغط والمساءلة المستمرة التي تراقب هنات الديموقراطية التمثيلية.
قد تكون كُلفة الاصطفاف كبيرة إذا لم نحسن إدارته سياسيا ولم نقرأه بالشكل المطلوب وإذا بقينا في الثنائيات القاتلة التي تغلق كل إمكانية توسيع للنقاش وتوسيع الخيارات و المبادرات.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115