قصر باردو" وخارجه لم يمض يوم واحد حتى تم تذكيرنا على الهواء مباشرة وعبر منصات التواصل الاجتماعى بان ما حدث يٌعدّ منجز تاريخي استثنائى في المنطقة علينا الاعتزاز به وعدم التشكيك في مساراته حتى وان عرف عدد لا يحصى من الخيبات.. فإذا تعثّر فذلك أمر طبيعي باعتبار أننا لازلنا في "السنوات التحضيرية الأولى" من التدرّب على الديمقراطية وأن ديمقراطيتنا لازالت ناشئة تحتاج الى مزيد من الانضاج والتنضيج والنضج داخل أفران غير معلومة والى أجل غير مسمى...
بالفعل علينا ان نٌشيد بهذا "المنجز التاريخى الاستثنائي" بجميع المقاييس والذى نجح بعلامة "امتياز" ان يعٌرّض البلاد إلى شبح الإفلاس الفعلى بعد ان تجاوزنا عتبة الإفلاس المقنّع.. وعلينا ايضا ان نقنع أنفسنا بأنها ديمقراطية ناشئة غضّة تمت تنشئتها بين أحضان دافئة وأمينة تنبض أدعية وتقيّة ...
بالفعل علينا ان نعترف ان من كتب سيناريو المشهد السياسى الراهن يحذق بشكل جيد عملية تحويل لغة "الضاد" إلى منظومة لسانية/خطابية مركبّة من "الأضداد".. "فالسياقات" تٌبرّر "الزلاّت" على فداحتها، "والزلاّت" تبيحها "الضّرورات"، و"الضّرورات" تٌسجّل دائما في خانة المبنى على المجهول، يحكمها منطق التضليل الكلامي الدعائي الاعلامي السياسي.. وتستخدم فيها جميع أنماط الخداع اللفظي والاغواء الذهني بهدف خلق حالة ذهنية مشوشة، مشتتة لدى المواطن العادى...
بالفعل طوال هذه السنوات (التي تضاهي القرن من الزمن وفق "التقويم الرقمى") تمرّسنا على مختلف فنون المخاتلة والرياء المجتمعى بعد أن تتلمذنا على جهابذة "علم الغيبيات السياسية الجدد" – les nouveaux scientologues politiques – .
كيف لا وقد علّمونا باقتدار بأن "ممتهن السياسة" عندنا كائن عجيب شبيه بالمخلوقات الميثولوجية اليونانية، جزؤه الأيمن يتموقع في "قلب دائرة الحكم" ونصفه الآخر مٌكلف بمهمة تنظيم وقيادة "صفوف المعارضة" كأفضل ما يكون...
وكيف يتسنّى لك استحمار الجميع وأنت في حالة من الورع والخشوع الشديدين ...
وكيف يمكن لك ان تستحمّ في الان نفسه في قصر "القصبة" و"باردو" دون ان تصيبك نزلة برد أو ضمير...
وكيف تصنع الأعداء الوهميين وتحارب طواحين الهواء دون هوادة...
وكيف تتحول "المساءلة" بقدرة قادر إلى "حوار" و"الحوار" إلى "مساءلة حوارية" ، ومصدر "السيادة" بمنطوق الدستور الى مصدريات متفرقة بين القبائل والعائلات السياسية ...
بالفعل عندما خطّ "ميكيافلى" مؤلّفه "الأمير" سنة 1513 لم يدر في خلده للحظة بان "أميره" سيسقط ويتهاوى بهذا الشكل، بأن يٌستبدل "بأمراء جدد" يجيدون تنظيم الحفلات التنكرية فتارة يرتدون قبعات رجال الدين وأحيانا أخرى ربطات عنق فاخرة وفق مقتضيات باروماتر المزاج العام .. وأن شعاره الشهير " الغاية تبرّر الوسيلة" سيسقط بالتقادم لتحلّ محله مقولة أصولية فقهية " الضرورات تبيح المحظورات " المحفورة في ذاكرتنا الجمعية الطقسية والدينية.. وان ميكيافليته لن تصمد كثيرا في وجه "ميكيافلية اسلاموية-حداثوية صاعدة متنكرة ومعولمة تنير لها الطريق طلائع من جند الحداثة المٌشوّهة والمؤلّفة قلوبهم وفلول من قوم " الله ينصر سيدنا ! "...
إلاّ أنّ ما حصل مؤخرا تحت قبة "مجلس المستشارين" سابقا على خلفية تقديم لائحة مساءلة لرئيس البرلمان من كتلة "الحزب الدستورى الحرّ" بعثر جميع الأوراق مٌنذرا ببداية تشكّل معادلة برلمانية مغايرة قد تسمح في المنظور القريب بتصدر العائلة الوسطية الموسعة للمشهد البرلماني وما سيترتب عن ذلك من استتباعات سياسية مباشرة على باقى دوائر القرار في البلاد ...
فمن سخرية الأقدار ان ينقطع ليلة المساءلة سيل "الالهام البلاغى النهضوى" داخل البرلمان عن التدفق .. أن يسقط بالضربة القاضية في أشد منازلة حجاجية عرفها البرلمان التونسى المعاصر.. أن يٌسحب البساط عن "الفصاحة السفسطائية المزدوجة " لفائدة "بلاغة خطابية أكثر وضوحا ومباشراتية" اتفقنا معها أو اختلفنا.. وأن تقع "أيقونات" النهضة داخل البرلمان في فخاخ عدو الامس واليوم اللدود "الحزب الدستورى الجديد "...
مختصر القول، يبدو ان الملهاة التراجيدية التي استمرت قرابة العقد من الزمن قد شارفت على نهايتها وأن الحيلة الحقيقية في ترك الحيل...